ثقافي

حين تتعب الصحافة، تنامُ المجتمعات

حين تتعب الصحافة، تنامُ المجتمعات

بقلم الياس بلاغة *

تمهيد:

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتعلو فيه الأصوات المتنافرة، تُهدَّد الصحافة التونسية بفقدان وظيفتها الأساسية: أن تكون فضاءً للفكر العميق لا مجرّد ساحة للردود السطحية. هذا النصّ دعوةٌ لاستعادة جرأة التحقيق في الأفكار، قبل أن تتحوّل وسائل الإعلام إلى مرايا عاكسة لعجز المجتمع عن التفكير.

في الاصل :

كانت الصحافة التونسية، عبر تاريخها، أكثر من مجرّد ناقل للأخبار. لقد صنعت أجيالاً من العقول النقدية، وفتحت ثغرات في جدران اليقين، وحملت صوت الذين لا يُسمعون. هذا الدور لم يكن يوماً سهلاً، واليوم صار ضرورة وجودية.

لكنّ ظاهرة مقلقة بدأت تتسلل إلى المشهد: أمام ضغط السرعة والتعليقات الفورية، صار النقاش العام يضيق حتى يختنق في ثنائيات سطحية من "مع" أو "ضد"، حيث لم يعد هناك متّسع للتعقيد ولا للعمق. هذه التبسيطات المفرطة ليست بريئة. فهي تمهّد الطريق للرقابة، وتزرع في النفوس رقابةً ذاتية أخطر، تجعل العقول الأكثر دقّة تصمت، أو تتراجع عن قول ما يجب قوله.

وسائل الإعلام التي لا تُحقق في الأفكار، تتحوّل إلى مجرّد مرآة تعكس ردود الأفعال.

صحافة تحقيق في الأفكار

نعم، نحن نعرف صحافة التحقيق في الوقائع، لكننا نفتقد، وبإلحاح، صحافة تحقيق في الأفكار.

المعركة هنا ليست ترفاً فكرياً. إنها معركة من أجل كرامة النقاش العمومي. أصوات البنّائين، المبدعين، الأساتذة، الأطباء، والمفكرين الذين يختارون التفكير قبل رد الفعل، يجب أن تعود إلى صفحات الصحافة، لا باعتبارهم خبراء نادرين، بل كمساهمين طبيعيين في بلورة وعي مجتمعي أكثر نضجاً.

إن هذا النداء ليس محاكمة، بل تحذير. فحين تتعب الصحافة، تنام المجتمعات. صحيح أن الإرهاق مفهوم، لكن الاستسلام غير مسموح به. ولنا جميعاً مسؤولية في إعادة بناء فضاء عام لا يخاف من الأسئلة الصعبة، ولا يرضى بالخمول الفكري.

*إلياس بلّاغة

مهندس معماري — كاتب وناشط ثقافي