الذين يستعمرون أنقاضنا دون أن يزرعوا زيتونة واحدة

الذين يستعمرون أنقاضنا دون أن يزرعوا زيتونة واحدة
بقلم الياس بلاغة*
كان الاستعمار يومًا ما يرتدي بزّةً عسكرية، ويتكلّم بلغةٍ غريبة، ويوهِمُ نفسه بأنه يحمل رسالةَ التمدّنِ والحضارة. أما اليوم، فقد غيّر المستعمِر وجهه ولغته ولباسه؛ بات يتحدّث بلساننا، ويلبس كما نلبس، ويتقمّص صفة "رجل الثقافة"، وهو في الحقيقة لا يصنع شيئًا. لا يعرف إلّا الإدارة والتنظيم، ولا يرى في الثقافة سوى أرقامٍ ومخططات. لقد هجر الأرض، واستوطن الأنقاض، واهمًا بأنه سيحكمُ فوق الخراب.
هؤلاء "المثقفون المزيفون" يتحدّثون باسمنا، وهم الذين لم تلامس أيديهم تراب ورشةٍ يومًا، ولم يشعروا بحرارة الشمس وهي تلهب الحجارة التي تُرصّ حجرًا فوق حجر. ثقافتهم مجرّدُ مسرحية سطحية، بلا عمق، بلا جذور. هم لا يعلّمون التفكير، بل يدرّبون على التكرار. يسمّون ذلك "تكوينًا مستمرًّا"، وما هو إلا تمرينٌ عقيم لا يُنتجُ شيئًا.
يدّعون الدفاع عن الثقافة، لكن ثقافتهم سلعة معروضة، ملفوفة في خطابات جوفاء، معروضة للبيع لمن يدفع أكثر. لقد فقدوا إحساسهم بجمالية الفعل الخلّاق، ولم يعودوا يعرفون معنى الأرض، ولا المادة، ولا الذاكرة.
مقاومة الجذور: الزيتون، القمح، والعمارة
بينما يغرقون في ندواتهم ومآدبهم الفاخرة، هناك من يواصل البناء والزرع والتقليم. هناك من يتحدّث، وهناك من يعمل. نحن نعرف معنى أن ترسم جدارًا بعرق الجبين. نحن نعرف انتظار موسم زيتون زرعناه بأيدينا، مدركين أنه سيُثمر لأطفالنا.
العمارة ليست خطابًا. إنها فعل مقاومة. إنها وقوفٌ في وجه الزائل، نقشٌ في الحجر لمعنى الكرامة. الثقافة لا تُبنى في صالونات المؤتمرات، بل تُنحت في الحقول، في الورشات، في مواقع البناء. هناك، تعلّمنا الأرض الصبر، وتدرّبنا اليد على الدقّة، ويستعيد النفسُ إيقاعَ الحياة.
يسخرون من رائحة الأرض، لكن عليهم أن يتذكّروا: من أعماق الروث تُستخرج أفضل زيوت الزيتون. من يحتقر القمح والمونة والزيتونة لن يبني يومًا شيئًا. هم لا يصلحون إلا لإدارة الفراغ.
تحذير للمتوسّطين
إلى أنتم، أيها المتوسّطون الذين تحلمون أن تكونوا شيئًا وأنتم لستم بشيء: لن تصبحوا أبدًا المستعمرين الذين تحاولون تقليدهم بشكل بائس. أنتم قطيعٌ بلا جذور، بلا رؤية، بلا إيمان. لقد نصبتم أنفسكم "نبلاء" بلا نُبل، وأثبتم للعالم كل يوم أن العدم يمكنه أن ينحدر إلى ما دونه.
أنتم لا تحبّون الثقافة، بل تخافون منها. الثقافة الحقيقية مرآة، وأنتم تخشون النظر فيها، لأنّها ستُظهِرُ فراغكم.
لا تعتقدوا أن الرداءة ستحميكم. حتى الرداءة لها معاييرها. وفي زمن كهذا، الرداءة نفسها تُعرض بشباك مغلق. لم يعد فيها مكانٌ للمتردّدين، للكسالى، وللذين بلا ملامح. الرداءة نفسها ترفضكم.
معكم أو بدونكم.
أما نحن، فسنواصل البناء. معكم أو بدونكم.
سنزرع بأيدينا، ونبني بحجارتنا، ونحيا بجذورنا. نحن لا نطلب الإذن لنوجد. واعلموا: هذه الأرض لا تعترف إلا بأبنائها الذين يعرفون كيف يتجذّرون فيها
*إلياس بلّاغة
مهندس معماري
رئيس سابق للهيئة الوطنية للمهندسين المعماريين بتونس
رئيس جمعية "المعماريون المواطنون".