تحركات في مواجهة التضيقات: تجميد نواة وصرخة الصحفيين من أجل حرية الصحافة

تونس/ الشعب نيوز- لم يمرّ قرار تجميد جمعية صحفي نواة التي تدير الموقع الإلكتروني الأقدم في ما يمكن أن نسمّيه بالمواقع الصحفية التونسية البديلة موقع نواة، وتُصدر مجلتها الشهرية بالفرنسية مرورًا عابرًا بل شكّل محطة مفصلية في مسار التضيقات التي تطال الصحافة المستقلة في تونس. فَالإجراء الذي استهدف الإطار القانوني والتنظيمي للمؤسسة لم يكن معزولًا عن مناخ عام يتّجه نحو إحكام السيطرة على الفضاء الصحفي والإعلامي، حيث تتحوّل الرقابة الإدارية والقضائية إلى أدوات لإقصاء الأصوات النقدية.
تجميد الجمعية لا يعني فقط تعطيل نشاط فريق صحفي ملتزم بالدفاع عن حرية التعبير والكشف على الانتهاكات والفساد والقضايا البيئية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية…، بل يعكس أيضًا إرادة سياسية لإعادة رسم حدود العمل الإعلامي وتقييد التجارب التي بنت شرعيتها على الاستقلالية والمسؤولية المهنية.
اختبار حقيقي للهامش الديمقراطي
في هذا السياق، يصبح المساس بنواة اختبارًا حقيقيًا لمدى صلابة الهامش الديمقراطي الذي يكاد ينعدم في البلاد ولقُدرة المجتمع التونسي على حماية مكتسبات حرية التعبير، أحد أهم مكاسب الثورة التونسية.
المشهد الصحفي والإعلامي في تونس لم يعد يحتمل ولم يعد مقبولا من كل الجوانب، فلا يخفى على أحد أن الواقع الصحفي اليوم يَتسم بتصاعد التضيقات وتراجع هامش الحرية وسط مقاومة متواصلة من الصحفيين للحفاظ على استقلالية المهنة وحق المجتمع في المعلومة. فبَيان النقابة الوطنية للصحفيين الصادر يوم 15 نوفمبر 2025 يعيد رسم حدود الأزمة بوضوح غير مسبوق، بعد أن دعت إلى تحرك وطني في العاصمة والجهات دفاعًا عن حرية الصحافة وكرامة العاملين في القطاع.
يكشف البيان حجم التراجع الخطير الذي يشهده المجال الإعلامي، من تجميد جمعية صحفي نواة وتعليق نشاط مَوقعي "نواة" و"انكفَاضة"، وأيضا حرمان الصحفيات والصحفيين من بطاقة الاحتراف وتعطيل حقوق العاملين في الإعلام العمومي والخاص.
مع تصاعد المحاكمات بمقتضى المرسوم 54 ومنع مراسلي الصحافة الدولية من التراخيص وتعثر تطبيق نظام المبادر الذاتي، يتبلور اتجاه ممنهج نحو تقويض استقلالية القطاع وإعادة هندسة الحقل الإعلامي بما يتعارض مع الدستور ومع المعايير الدولية.
هذا السياق المشحون الذي ترافق فيه الإجراءات الإدارية والقضائية مع تواصل سجن عدد من الصحفيين مع تضييقات أمنية وسياسية متواترة ومقصودة، يحول وضع الصحافة في تونس إلى اختبار حاسم لقدرة المجتمع على حماية مسار حرية التعبير. ومن هنا تتحوّل الدعوة إلى التحرك الوطني إلى لحظة فاصلة، تُعلن فيها النقابة أنّ هذا الوضع غير محتمل وغير مقبول وأنّ الدفاع عن المهنة أصبح دفاعًا عن الحق في المعرفة وعن جوهر الديمقراطية ذاتها.
"تيار الكتابة المقاومة"
لم تكن الصحافة البديلة في تونس مجرد هامش أو حالة معارضة للصحافة الرسمية (العمومية) ولا استجابة تكتيكية للرقابة بل يمكن أن نعتبرها تيارا صحفيا بديلا عن الصحافة السائدة في كل حقبة سياسية تريد تطويع الخطاب الصحفي من أجل خدمة سردِيتها واجنداتها، بل يمكن أن نعتبر الصحافة البديلة في زمننا الراهن امتدادًا تاريخيا وفكريا لما يمكن أن نصطلح عليه "بتيار الكتابة المقاومة"، وهو تيار مركب من أجناس كتابة مختلفة (الشعر خاصة عبد الرحمان الكافي والنثر والمقالات والأقصوصة والنصوص المسرحية والكتابة البحثية (الخيال الشعري عند العرب أبو القاسم الشابي / نحن أمة علي البلهوان / العمال التونسيين ودور الحركة النقابية للطاهر الحداد/ وحتى النكت الشعبية …) تعمل على تفكيك منظومة السلطة من الداخل.
في مرحلة الاستعمار، لم تكن الصحافة الساخرة أو الصحافة الوطنية عموما مجرد ترف لغوي بل آلية معرفية،عبر اللعب بالرموز والتورية التي كشفت عن تناقضات الخطاب الاستعماري وأضعفت مشروعه ولو رمزيا. أسماء صحف مثل الكركاوز والسردوك والنِّسناس لم تستهلك الهزل فقط بل وظفته كمنهج قراءة يرصد الشبكات الاجتماعية والسياسية التي تُنتج الطاعة، ويبرز القيم والممارسات التي يقمعها الاحتلال، وكيفية مواجهة هذا الاستعمار وحث الشعب على المقاومة وعدم الاستسلام.
هذه الرؤية التاريخية ربما تفسّر لماذا يراهن كل نظام على إخضاع الصحافة، ليس لخوفه من الخبر بقدر ما لخوفه من فقدان السيطرة على سردية الواقع. الصحافة البديلة، حين تتحول إلى فضاء يعيد توزيع المعنى، تعيد أيضًا تموضع القوة الرمزية في المجتمع: لا تُنافس السلطة فقط بخبر مخالف، بل تهدد مشروعها في بناء العالم.
أبرز الأمثلة في التاريخ الحديث
ومن أبرز الأمثلة في التاريخ الحديث، جريدة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل، التي واجهت السلطة مباشرة في محطات حاسمة، وذلك قبيل الخميس الأسود 1978 حين وثّقت سنة كاملة من المطالب الاجتماعية والملفات الحارقة ونقلت خطاب الاتحاد، وفضحت الرواية الرسمية التي شيطنت الحركة النقابية، وكذلك خلال انتِفاضة الخبز ذات جانفي 84، حيث حافظت على هامش مقاوم داخل مناخ سياسي خانق.
وبالمثل قبل الثورة، كانت نواة واحدة من الأسماء القليلة التي كسرت العزلة الإعلامية وفتحت نافذة على ما يجري فعلًا في البلاد،اشتغلت بروح المغامرة لا بروح المؤسسة، لم تكن من الناحية المادية أو من زاوية الواقع السياسي تملك إلا ما يشجعها على الاستمرار يومًا إضافيًا، لكنها كانت تملك ما هو أهم من الموارد القناعة بأن كشف الانتهاك واجب، وأن الصمت جريمة وأن الحرية آتية في نهاية المطاف.
بعد الثورة، رسمت نواة شيئا فشيئا صورة المشروع الصحفي المحترف، فلم تكتف بالاحتجاج ورفض ما هو سائد مثلما كانت تفعل قبل الثورة بل كانت تسند كل أشكال الغضب الاجتماعي، تعيد للشارع صوته، وتوثّق ما يحاول النظام بمختلف مكوناته وألوانه السياسية إخفاءه دون أن تتحول إلى مجرد استعراض خطابي ساخط بل حافظت على درجة عالية من الحرفية والموضوعية في مختلف الأشكال الصحفية التي أنتجتها وقدَمتها لجمهورها الواسع.
كتب الصحفيون والمساهمون في نواة طيلة ما بعد الثورة وما بعد 25 جويلية 2025 بنفس الروح النضالية والموضوعية المهنية من داخل لحظة الخوف ولحظة التمرّد معًا وهاهم يقفون بشجاعة أمام قرار التجميد مؤكدين أن التجميد الظرفي وكل أشكال التضيقات لن تؤثر على الخط التحريري لموقع نواة.
امتداد تاريخي لصَحافة المقاومة والنقد
بهذا المعنى، يبدو أن الصحافة البديلة في تونس ليست مجرد تجربة إعلامية، بل ممارسة وجودية ونقدية مستمرة تتحدى كل نظام يحاول احتكار الحقيقة وتشكيل الوعي العام.
في هذا السياق يبدو أن الصحافة البديلة في تونس، لم تبق طويلاً خارج مقصّ الرقيب وتعليمات الحاكم بأمره وهذا ما يذكرنا بسنوات سطوة وكالة الاتصال الخارجي التي أشرفت على صناعة بروباغندا "تونس الأمن والأمان" بل هي اليوم أمام هجمة شرسة فعلًا وجوديًا في مواجهة آلة سياسية حاولت أن تحدد ما ينبغي أن يُرى وما يجب أن يُنسى وأن يعود الخطاب الصحفي إلى واقع ما قبل الثورة.
بهذا المعنى، تبدو الصحافة البديلة في تونس امتدادًا تاريخيًا لصَحافة المقاومة والنقد، وليست فقط مجرد مشاريع جمعياتية معزولة عن السيرورة التاريخية الصحافة والمجتمع في تونس.
بعد الثورة بقيت أو تعززت الحاجة إلى الصحافة البديلة ثابتة لأن الدولة تغيرت شكليا لكن البنية العميقة ظلت كما هي والاحتجاجات التي اندلعت في الجهات المهمشة منذ 2011 احتاجت إلى منصة لا تخاف من الرواية الأصلية ولا تتورط في تمويه الحقائق وهنا واصلت نواة دورها التاريخي في مرافقة الحراك الاجتماعي من سيدي بوزيد إلى تطاوين ومن الوقفات الصغيرة أمام المحاكم إلى الاعتصامات الكبرى كما حافظت على استقلاليتها ووفرت مساحة بقيت عصية على الابتلاع الإعلامي والسياسي.
نموذج جديد للنص الصحفي
في السنوات الأخيرة توسع المشهد وظهرت أسماء أخرى لعبت دورا مركزيا في تثبيت مفهوم الصحافة المستقلة. الكتيبة جاءت كمنصة تستعيد الحسّ التفسيري الذي افتقدته أغلب وسائل الإعلام واشتغلت على ربط الخبر بسِياقه الاجتماعي والسياسي وقدمت نموذجا جديدا للنص الصحفي الذي ينطلق من الميدان لا من مكاتب التحرير واعتمدت لغة بسيطة وعميقة في الآن نفسه وفتحت أبوابها للمَواضيع التي تُقصى عادة من الإعلام التقليدي.
وأيضا موقع انكفاضَة فقد رسخ حضوره بفضل اشتغاله على الصحافة المعمقة والتحقيقات العابرة للقطاعات وبفضل قدرتها على إدخال أدوات التكنولوجيا في العمل الصحفي دون الوقوع في فخ التقنية من أجل التقنية واهتمت بكشف شبكات الفساد واقتصاد الريع وتَموضعت في مساحة نقدية ونجحت في بناء أرشيف بصري وكتابي مهم حول التحولات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
لا يمكن الحديث عن الصحافة البديلة في تونس دون ذكر تجربة المفكرة القانونية، حيث حافظت الأخيرة على خط تحرير يضع القانون في قلب الأسئلة السياسية والاجتماعية وقدمت قراءة نقدية للبُنى التشريعية وفضحت كيف يمكن للقانون أن يتحول إلى أداة للهيمنة أو أداة للتحرر حسب من يمسك به وأثبتت أن الحديث عن الديمقراطية لا يكتمل دون تفكيك البنية القانونية التي تتحكم في الحريات وفي علاقة المواطن بالدولة.
كشف هشاشة السرديات الرسمية
هذه المنصات لم تكن مجرد مواقع إلكترونية بل كانت جزءا من معركة طويلة حول من يملك الحق في سرد ما يحدث فعلا في تونس. الصحافة البديلة أعادت توزيع السلطة الرمزية وكشفت هشاشة السرديات الرسمية ودفعت الناس إلى استعادة حقهم في الكلام وصنعت تقليدا جديدا يقوم على أن المعرفة ليست امتيازا وأن الشفافية ليست منّة وأن الديمقراطية تحتاج إلى أعين مفتوحة طوال الوقت. اليوم ورغم الصعوبات تبقى هذه الصحافة آخر ما يحمي المجال العام من التلوّث بالتحريض والكذب والمال السياسي وبقدر ما تتوسع هذه التجارب بقدر ما يصبح مستقبل الديمقراطية أقل هشاشة وأكثر قربا من الناس.
اليوم تبدو الحاجة إلى الدفاع عن هذه المنصات أشدّ من أي وقت مضى لأن الهجمة على المجال العام تعود بأشكال جديدة أكثر نعومة وأقل ضجيجا لكنها أكثر خطرا. ليس المطلوب فقط تمويلها أو حماية وجودها القانوني بل حماية معنى وجودها أصلا.
إذن الصحافة البديلة ليست امتيازا ثقافيا ولا مشروع نخبة بل آخر خطوط الدفاع عن الحق في المعرفة في سياق تتوسع فيه الرقابة الذاتية وتعود فيه سلطات تقوم على التخويف من النقد وعلى احتكار السردية.
النضال اليوم هو نضال ضد التفكك وضد العودة التدريجية إلى الصمت والرقابة لذلك تصبح حماية هذه المنصات مسؤولية جماعية لأنها تحفظ ذاكرة الاحتجاج وتتبع أثر الانتهاكات وتقاوم التجييش الإعلامي وتعيد للناس ثقتهم بأن الحقيقة ممكنة وأن الدولة ليست فوق المساءلة وأن المواطن ليس متلقيا بل طرفا كاملا في إنتاج المعرفة العامة وبالتالي يستحق منابر إعلامية تحترم أخلاقيات المهنة الصحفية وتحاول تقديم الحقيقة.
بقلم: مالك زغدودي

* العناوين الفرعية من وضع التحرير


