علي المحجوبي: قامة شامخة في العلم والتعليم، بدأ مشواره برد الجميل لأبناء قريته

غيب الموت مطلع هذا الأسبوع، الأستاذ الدكتور علي المحجوبي، أستاذ التاريخ في الجامعة التونسية، عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، المؤرخ العصري، المحدّث للبحث، والدافع بعلمه ومعرفته الى تفكيك الاحداث التاريخية التي يتناولها.
صحيح أن المرء حديث من بعده لكن لن أطنب في الحديث عن مسيرته الجامعية، باعتبار ان كثيرين من طلبته، الذين أصبحوا زملاء له، تداولوها بكثير من التفاصيل والاطراء والتفضيل وهم الأدرى بها.
* على المحجوبي مع اثنين من زملائه اساتذة التاريخ في الجامعة التونسية محمد الهادي الشريف ورؤوف حمزة
يهمني ان اشير الى جانب من حياته عرفته فيه وأنا شاب – حتى لا أقول طفل – كان فيه بالنسبة لي وعدد من اترابي المثال والقدوة تماما كما كان يوسف علوان ومن بعده بسنوات كل من صالح الزغيدي وغيره ممن لا استحضر أسماءهم اليوم.
علي المحجوبي، سليل عائلة اصيلة جبنيانة نذرت ما توفر لها من عائدات ومداخيل اما من الاعمال الحرة او الفلاحة على قلتها لتعليم أبنائها، كل أبنائها لقناعة راسخة لديها كما لدى كل عائلات ذلك "البلد" ان التعليم وحده، الى جانب كونه مصعدا اجتماعيا ثابتا، هو الكفيل بتحريرها من وطأة الاستعمار الذي كان جاثما على الربوع والحيلولة دون الزج بفلذات أكبادها في أتون الحروب التي كانت دائرة آنذاك، العالمية الثانية او ما بقي منها وحرب الهند الصينية وحرب الجزائر وأخرى كثيرة كانت فرنسا طرفا رئيسيا فيها.
للعلم فان الاستعمار الفرنسي كان يعفي المتعلمين وحملة الشهائد – ومنها السيزيام – من أداء الخدمة العسكرية.
دروس بالمجان
نجح سي علي في دراسته كما نجح من قبله شقيقه الأكبر خالد ومن بعده الحبيب ورؤوف وبذلك رد الجميل لوالديه. كما رد الجميل للبلدة ولأبنائها من الأجيال التي لحقته فكان يتطوع مع يوسف علوان وآخرين كثيرين لتقديم دروس مجانية لفائدتهم، كل في اختصاصه، الادبي او العلمي. كانت تلك الدروس عن طريق "جمعية التعاون المدرسي " ويجري بعضها في محل يسمى " الدريبة " هذه التي كانت مقرا لـ" عامل" أي حاكم المثاليث في منطقة كانت تمتد شمالا الى ما ابعد من مدينة الشابة حاليا وجنوبا الى حدود مدينة صفاقس وغربا الى ما بعد مدينة الحنشة.
وقد لا يعرف الكثيرون أن " أبرز" عامل حكم جبنيانة باعتبارها "عاصمة المثاليث " لم يكن الا العالم العلامة المؤرخ المشهود له حسن حسني عبد الوهاب.
انتفعت شخصيا وعدد من أترابي بتلك الدروس المجانية فشكلت بالنسبة لنا إضافة كبيرة ساعدتنا على النجاح في دراستنا لاحقا. لكن أهم ما رافق تلك الدروس، ما يمكن ان نسميه بلغة المسرحيين "خروجا عن النص" حيث كان معلمونا أولئك يخبروننا عن الحياة الجامعية وعن نمط العيش في المدن التي يدرسون فيها وأشياء أخرى كثيرة عن السياسة والاقتصاد والفلسفة وعن الاتجاهات الفكرية وعن التحولات الاجتماعية وغير ذلك كثير مما كون لدينا رغم صغر سننا ومبكرا ملكات النقد والتحليل والاستقراء والغوص في أعماق أي ظاهرة تمثل أمامنا. والحقيقة ان سي علي كان بهدوئه المعتاد والابتسامة التي لا تفارقه مبدعا في هذا الجانب.
* كتاب لسي علي يساعد على فهم واقع اليوم
سباق القراءة
وان انسى فلا يمكن ان أنسى كم كان سي علي وقبله سي يوسف و آخرون يحثوننا على المطالعة ويقترحون علينا عناوين كتب في كل الأغراض. والطريف انه نشأ بيننا نوع من التسابق والتلاحق في عدد الكتب التي يكون كل واحد منا قد قرأها لان حلقات النقاش التي جرت العادة على تنظيمها عشايا أيام الصيف كانت تكشف وبسهولة من منا له اطلاع ام لا على موضوع الحلقة ومن منا قرأ ام لا كتابا حوله.
بمثل هذا الانقطاع للعلم والتعليم والإفادة والذوبان في خدمة الغير، نجح سي علي كمدرّس في كلية 9 افريل وحاز الى جانب زملائه على ثقة الطلبة سواء ممن كانوا من طلبته او من غيرهم، وصار لأغلبهم صديقا وأخا نصوحا وخاصة لما ارتقى الى عمادة الكلية حيث أصبح حاميا للطلبة في تحركاتهم وسدا منيعا ضد أية هجمات او ملاحقات تستهدفهم اثناء انشطتهم داخل الكلية.
وبالمناسبة انا استغرب كيف ان النظام الإداري في تونس يحرم الطلبة من قامة علمية مثل سي علي بحجة انه ادرك سن الإحالة على شرف المهنة. اعتقد ان شرف المهنة بالنسبة لسي علي وامثاله من جهابذة العلم والتعليم في تونس ان تتاح لهم، بصيغة ما من الصيغ، فرصة موصلة القاء الدروس والمحاضرات في اختصاصهم الى آخر أيامهم.
قصة لغير الجديين
سي علي المحجوبي انتج العديد من المؤلفات التي تزخر بها المكتبة التونسية واتفق زملاؤه وطلبته على انها وباختصار شديد من النوع الرفيع في الاختصاص. منها ذلك الموسوم بعنوان " ما يجب ان تعرف عن انتصاب الحماية في تونس" وهو مؤلف ضخم أتى على تفاصيل دخول الفرنسيين الى تونس واستقرارهم بها واستيلائهم على أراضيها ومقدراتها. وهو مرجع في المجال. لكن من ناحية الرسم، كتب الجزء الاول من العنوان بخط صغير فيما كتب الجزء الثاني بخط غليظ.
صديقي وصديق الكثيرين، المناضل في قطاع النشر وفي مجال حقوق الانسان والصحافة، اخي ناجي مرزوق صاحب دار صامد للنشر بصفاقس، يحرص على عرض الكتاب في محلاته الخاصة وكذلك في معرض الكتب التي يشارك فيها سواء بتونس او خارجها.
حدثني، وهذه قصة موجهة لغير الجديين، انه ذات مرة شارك في معرض للكتب أقيم في عاصمة عربية، لا فائدة في ذكر اسمها، وأنه زيّن رفوف جناحه بكمية هامة من كتاب سي علي "انتصاب الحماية في تونس" اعتبارا لقيمة محتوى الكتاب واعتقادا منه ان الموضوع يهم القراء والباحثين في تلك العاصمة وبلدها.
قال " اقبل الناس بكثرة على الجناح واقتنوا الكثير من الكتب التونسية المعروضة فيه. الا كتاب سي علي. والاغرب انني كلما تفقدت المعروضات واعدت ترتيبها بعد ان بعثرها الزوار، وجدت كتاب سي علي "مقلوبا" بحيث لا تظهر منه الا الصفحة الأخيرة للغلاف. مرة، اثنان، ثلاث، أربع الى ان جاء عامل في المعرض وطلب مني ان احجب الكتاب من العرض نهائيا. سألته عن السبب، فوضع اصبعه على الكلمة الأولى من العنوان وقال هذه هي السبب."
رحم الله سي علي ، واحدا منا، مؤدبنا، معلمنا، أستاذنا، اخانا، صديقنا، صاحبنا وكل شيء جميل في هذه الدنيا، واسكنه فراديس جناته ورزقنا والعائلة جميل الصبر والسلوان.
محمد العروسي بن صالح