وثائقي

معركة بنزرت 1961: 4 أيام من جحيم الحديد والنار ومن صور الصمود والبطولة

الشعب نيوز/ ذكريات *- تتجدد كل سنة ذكرى الجلاء العسكري عن بنزرت في 15 أكتوبر1963 التي ترتبط إرتباطا عضويا بأحداث جويلية 1961. فماهي أسباب هذه الأحداث ؟ وما هي وقائعها ؟ ودورها في الجلاء عن بنزررت وتباين المواقف حولها ؟

-1- أسباب المعركة :

من اسبابها الرئيسية رغبة فرنسا في المحافظة على قواتها العسكرية بالبلاد التونسية بعد الإستقلال 20مارس 1956 ، أكثر من عشرين ألف جندي و خمس قواعد عسكرية استراتيجية لحماية مصالحها ومحاصرة الثوّار الجزائريين وخاصة قاعدة بنزرت لأهمية موقعا الاستراتيجي فرئيس مجلس الوزراء الفرنسي " جول فيري" Jules Ferry اطلق اسمه على مدينة منزل بورقيبة " فريفيل فيل " Ferry ville. زاربنزرت في 23 أفريل 1887 ، فقال:" هذه البحيرة وحدها تستحق امتلاك تونس كلها وإذا كانت فرنسا جاءت إلى تونس فذلك من أجل حيازة بنزرت"

البداية من الساقية

بدأت الأحداث فعليًا يوم 8 فيفري 1958 إثر العدوان الفرنسي على قرية ساقية سيدي يوسف التي تقع قرب الحدود مع الجزائر وأسفرت عن وقوع عشرات الشهداء ومئات الجرحى من التونسيين فأصدرت الحكومة التونسية أمرا للمقاومين والجيش التونسي الناشئ بمنع تحركات القوات الفرنسية دون ترخيص من الحكومة التونسية لكن الجيش الفرنسي لم يلتزم بذلك وغادر ثكناته" ببرج البوف " ( برج القصيرة بتطاوين حاليا ) واصطدم بالتونسيين مما أسفرعن إستشهاد العديد من التونسيين ابرزهم مصباح الجربوع في 26 ماي 1958.

أدّت هذه المقاومة إلى قبول فرنسا الجلاء عن كامل البلاد على مراحل بإستثناء قاعدة بنزرت بموافقة الحكومة التونسية ، حسب بلاغ الحكومة التونسية في17 جوان 1958 وقد أورد هذه الوثيقة" عبد اللطيف منجّة "في كتابه "معركة بنزرت" ص 9 تونس 1984.

شرعت فرنسا في في توسيع المطار العسكري بثكنة سيدي احمد منذ 30 جوان 1961 ، فتصدت قوات الحرس الوطني التونسي وأعادت الأسلاك الحديديّة لمكانها الأصلي ويوم 1جويلية أبلغ القائم بالأعمال الفرنسية بتونس رئيس الحكومة التونسية الباهي الأدغم ووزير الخارجية الصادق المقدم " انزعاج فرنسا الشديد من العملية "وأمهل الحكومة التونسية 48 ساعة لإيقاف التصدي للأشغال وإلا ستضطر لإستعمال القوة . في الأثناء تعدّدت المظاهرات والضغط الشعبي وتجنيد المتطوعين وحفر الخنادق حول المطار العسكري لمنع الجيش الفرنسي من مواصلة الأشغال فكان ردّ الرئيس الفرنسي شارل ديقول صارما بقوله " لا حلول تحت الضغط" في إشارة الى رفضه الإنسحاب من قاعدة بنزرت .

أمام هذه التطورات أخبر الباهي الأدغم الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 4 جويلية بفشل المفاوضات وتعنت فرنسا وصعوبة تسوية القضية وفوض له الأمر. فماذا اختار بورقيبة وماهي مبرّرات إختياره ؟

إختاربورقيبة المواجهة لعدّة أسباب وضغوطات : فشل الحل السياسي والديبلوماسي في لقاء" رومبوييي " Rambouillet مع " ديغول" ،الضغط الشعبي الكبيرببنزرت ، تعدّد الإجتماعات بالجهات بـتأطير من الإتحاد العام التونسي للشغل وضغط اليوسفيين الكبير واتهامهم لبورقيبة بأنه يراعي مصالح فرنسا أكثر من المطالبة بالإستقلال التّام وإتهام القوميين الناصريين لبورقيبة بالخيانة واعتبار الإستقلال منقوصا خاصة جمال عبد الناصر وأحمد بن بلّة وصالح بن يوسف ....

كل ذلك دفع ببورقيبة الى إعلان حرب بنزرت ، إذ قال يوم 16 جويلية 1961 أمام البرلمان : " لقد وصلنا إلى لحظة لا يمكننا بعدها الإنتظار، وإذا ما قررنا إستعادة المعركة ، فلأن جهودنا في التفاوض ذهبت سدّى ".

فردّ " ديغول " بمكالمة هاتفية يوم 18 جويلية عند منتصف النهار والنصف ، أكّد فيها رفض فرنسا الإنسحاب من القاعدة العسكرية ببنزرت وخاطب الجنرال"امان" Amman "بالضرب بقوة وسرعة" Frappez fort et vite et vite"

هكذا فشلت كل الحلول لإنسحاب القوات الفرنسية عن بنزرت ولم يبق من خيار سوى المواجهة .

-2- وقائعها :

الأربعاء 19 جويلية 1961: قامت قوات الجيش التونسي صحبة آلاف من المتطوعين بحصار القاعدة وانطلاق المعارك بعد تصريح وزيرالإعلام الفرنسي" تيرنوار" " Terrenoire بوضع وحدات المظليين تحت تصرف قاعدة بنزرت" فردّت السلطات التونسية عبربلاغ إذاعي على الساعة الواحدة بما يلي " تلقى الجيش التونسي الأمر بقصف كلّ مروحيّة تحلّق في المجال الجوي التونسي " .

سارت المعركة في البداية لصالح التونسيين وتمّ اقتحام مركز التموين الفرنسي، ونجحت المدفعية التونسية في تحطيم سبع طائرات فرنسية في مدارج مطار سيدي أحمد ومقتل وجرح 30من المظلّيين الفرنسيين القادمين من الجزائر وجرت محاولات لاقتحام ترسانة منزل بورقيبة.

إثر ذلك ردت القوات الفرنسية الفعل بعنف عن طريق حاملة الطائرات المتمركزة بالقنال والطائرات القناصة والقذائف والقنابل والرشّاشات والنبالم الحارق بشكل عشوائي على الأهداف المدنية والشيوخ والأطفال و مقرات الحرس الوطني التونسي و سيارات الهلال الأحمر وهي بصدد اسعاف الجرحى ، فكانت الحصيلة ، سقوط 50 تونسيا ( بين قتيل وجريح)

الخميس 20 جويلية 1961: السابعة صباحا ، قدمت الحكومة التونسية شكوى لمجلس الأمن وقطع العلاقات الدديبلوماسية مع الحفاظ على العلاقات القنصلية، لكن فرنسا لم تكترث بذلك وصعّدت العدوان بقصف معظم الجهة بعنف مما أسفر عن سقوط مزيد من الجرحى في حدود 500 وارتفاع عدد القتلى إلى أكثر من 200 (بنزرت المدينة ، الناظور ، سيدي أحمد حيث أستشهد 130بنيران الرشاشات ، منزل بورقيبة ( قتيلان ) منزل جميل استشهاد 11 من عناصر الحرس الوطني ، عديد الشهداء بسواحل رفراف بسبب زرع الألغام...

عجز المستشفى الجهوي عن معالجة الجرحى فوقع تركيز وحدة اسعاف وعلاج بملعب " مارسال سردان " "Marcel Cerdan " أحمد البصيري حاليا ، كان هذا اليوم مأساويا في تاريخ مدينة بنزرت إذ تحولت إلى مدينة أشباح محاصرة ، إذ دمرت وسائل الدفاع وقطع عنها الماء والكهرباء وإنتشرت بها الجثث والأشلاء وقطع عنها المدد العسكري والغذائي ... وقد وصف ذلك " جون "دانيال " Jean Daniel رئيس تحريرصحيفة " الأكسبراس الفرنسية في عددها الصادر يوم 27 جويلية1961 حيث كان موجودا وشاهدا على الأحداث ثم أعاد شهادته في مؤتمربنيويورك في أفريل2010 عندما سأله أحد المشاركين عن أحداث بنزرت.

"...Juillet 1961, cela ne vous rappelle rien ?" Oui, cela me rappelle quelque chose ! Et pour cause !  .C'était Bizerte, la ville assiégée où j'avais été gravement blessé par des éléments de l'armée française."

وكان جون دانيال قال ايضا: " كلّ الحروب قذرة و أقذرها حرب بنزرت ".

الجمعة 21 جويلية: لم تسقط بنزرت كما خططت لذلك القيادة العسكرية الفرنسية و تواصلت المعارك وتواصل الصمود حيث سقط 50 قتيلا  في نصف ساعة تقريبا في منزل بورقيبة وأصبح القصف أكثر ضراوة بهدف تحطيم معنويات الأهالي ، شهدت خلالها المدينة منذ المساء الى فجر السبت معارك شرسة وحرب شوارع حقيقية ولم تفلح القوات الفرنسية في احتلال المدينة أمام صمود وشجاعة الأهالي وعادت المقاومة لتتجذر بقوة رغم ضعف الإمكانيات.

وقد أدلى المناضل الأزهر الزيدي أصيل القصرين بشهادته حول أحداث هذا اليوم البطولي .

" يوم 21 جويلية 1961، أمرنا الملازم لخضر فتّاح والوكيل عز الدين الرفرافي بالإنسحاب من منزل جميل إلى مفترق العزيب وهناك تمركزنا في مواقعنا إلى أن وصلت الطلائع الأولى من الجيش الفرنسي في طريقها نحو العالية فبادرناها بإطلاق النار ومنعناها من التقدم ووقعت معركة في تلك الغابات المحيطة بمفترق العزيب.

وقال ان الفترة التي مرّ بها المقاومون بولاية بنزرت كانت قاسية جدا على مستوى العدد والعدة ." أتذكّر أنهم كانوا يأتون لنا بالخبز وقد مضى عليه 15 و20 يوما نظرا لصعوبة إيصاله للمقاومين وكنا عندما نفتح الخبز نجده "مصوّفا " من الداخل فننزع الجانب الأخضر ونحاول أكل السليم منه ،إن المواطنين ببنزرت سواء كانوا من النساء أو الرجال خاطروا بأرواحهم وكانوا يجلبون الطعام والماء إلى ميدان المعارك، وان الخروج لم يكن سهلا في ذلك الوقت وان كل من يخرج قد لا يعود إلى بيته وان النساء مع ذلك خرجن وغامرن بحياتهن...

كان الجيش الفرنسي يهاجم السيارات والبشر فيما جثث الشهداء كانت على الطرقات وان المواطن "البنزرتي" لم يكن يهاب الموت . كما أن وصول الإمدادات كان شبه مستحيل من العاصمة وأنه مع ذلك تحدّى "البنزرتية" القوّات الفرنسية "

السبت 22 جويلية 1961 : أفاق السكان في يوم شديد الحرارة على عشرات الجثث المتعفنة الروائح، المنذرة بالوباء في كل مكان بسبب منع الأهالي من إنتشالها منذ يوم الأربعاء ، لكن الروح المعنوية كانت عالية إذ قام عديد المقاومين الملثمين بمهاجمة الجنود الفرنسيين وقتل العديد من المظليين Les paras.

عندها قررالجنرال «أمان»Amman نسف المدينة وإبادتها بأكملها للتخلص من المقاومة بالقنابل من وزن250كغ إلى حدود فجر يوم الأحد موعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي بوقف اطلاق النار مما خلف أكثر من 250 من الشهداء خاصة بالمدينة العتيقة وهو اليوم الأكثر دموية.

وقد نوّه أحد المظليين بأحداث ذلك اليوم فقال :

" لقد أعطتنا أسلحتنا ومفعول الصاعقة الذي تحدثه إحساسا عجيبا بالقوة، في تلك اللحظة لم تعد تهمني سمعة فرنسا في العالم... لقد كنا نحن المظليون أشبه بقطيع من الذئاب التي اندفعت في المدينة وأحكمت الخناق على الجيش التونسي". وقد شكر الرئيس ديقول الجنرال " امان" وحياه على برودة دمه وحنكته في التعامل مع " المعتدين " من الأهالي حسب تعبيره من خلال رسالة بعثها الى الوزير الأول الفرنسي:

« Je vous exprime mon entière satisfaction pour la fermeté , le sang froid, l’habilité dans l’emploi des moyens dont vous avez fait preuve à Bizerte en remplissant votre mission devant l’agression"

Cordialement à vous, Signé Charles de Gaulle.

* منقول عن صفحة بنزرت الرائدة

عماد الدرويش