مجلة الحياة الثقافية ....من مشروع تنويري إلى أزمة مؤسساتية

بقلم الشاعر محمد العربي - في زمن ما، حين كانت الثقافة التونسية تصارع لأجل حضورها وتبحث عن مكانها الطبيعي ضمن مشروع الدولة الحديثة، وُلدت مجلة الحياة الثقافية.
لم تكن مجرد مطبوعة شهرية، بل كانت واجهة لوعي يتشكّل، وامتدادًا لفكرة أعمق عن ضرورة التأسيس لمعمار ثقافي متين، تتقاطع فيه الإبداعية مع المعرفة، والهوية مع الانفتاح.
قاد هذا المشروع رجل من طينة استثنائية: محمود المسعدي، الذي لم يكن ينظر إلى الثقافة كزينة ثانوية، بل كركيزة وجودية.
ولدت المجلة في تلك اللحظة الطلائعية كمحاولة لصياغة خطاب ثقافي جديد، جامع بين الأصالة والحداثة، بين الانشغال بالتراث والانفتاح على الأسئلة المعاصرة. وكانت، لسنوات طويلة، تشكل إحدى نوافذ الحوار الفكري والنقدي في تونس، ومنبرًا للكتّاب والشعراء والمفكرين العرب من مختلف التيارات.
* من المشروع الطلائعي إلى الأزمة: تآكل المعنى وتشوّش الرؤية
لكن، في السنوات الأخيرة، بدا واضحًا أن المجلة تعيش على أنفاسها الأخيرة. لم يعد من الممكن الحديث عن "مشروع ثقافي" حين يغيب عنه السؤال المحوري: ما الذي نريد أن نقوله من خلال هذه المجلة؟ ولمن نكتب؟
تدهور المحتوى لا يُقاس فقط بجودة النصوص أو بنمطية المواضيع، بل بانعدام البوصلة. لا سياسة تحريرية واضحة، لا انخراط حقيقي في النقاشات الثقافية الراهنة، لا قدرة على استشراف الأسئلة المستقبلية.
بل أصبحت المجلة، في كثير من أعدادها، مجرد أرشيف يعيد إنتاج نفسه: أسماء مكرورة، قراءات سطحية، ومواضيع بلا أثر.
إنها أزمة معنى قبل أن تكون أزمة شكل. فالمجلة التي كانت في قلب المعارك الفكرية، تخلّت عن دورها النقدي، وباتت تنقل المواد كما تُنقل البيانات الرسمية: ببرود وبلا مساءلة.
ما يُؤلم أكثر في هذا المسار، هو أن المجلة التي تأسست في لحظة تنويرية، تحوّلت إلى مشروع ثقافي رجعي بمقاييس الحاضر.
انغلاق على أسماء بعينها غياب شبه تام للجيل الجديد من الكتّاب والباحثين. إقصاء للأسئلة الحارقة التي يعيشها المجتمع اليوم. وبدل أن تكون المجلة مرآة لتحوّلات الوعي، أصبحت ملاذًا للماضوية المتصالحة مع الركود.
هذه ليست إشكالية جمالية أو تحريرية فقط، بل مؤشّر خطير على الأزمة العميقة التي تعيشها الثقافة التونسية اليوم: غياب النقاشات، غياب الجدل، غياب الرهان على الجديد.
* الثمن المؤلم: تمويل مضطرب ومصير غامض
أن تستمر مجلة كهذه، بتأخر متكرر في الصدور، وتراجع مستمر في التوزيع والمحتوى، ثم تتلقى تمويلًا عامًا في سياق مرتبك ومضطرب، فذلك يعكس خللًا بنيويًا في السياسات الثقافية.
ليس الأمر مجرد دعم مادي منتظم، بل هو أشبه بتمويل عشوائي، لا يستند إلى تقييم أو جدوى، بل إلى عادات بيروقراطية قديمة، تُنفق فيها الأموال دون رؤية أو آليات للمساءلة.
هذا التمويل المتذبذب يكرّس انعدام الثقة في المؤسسات الثقافية، ويمنع التفكير في حلول مستدامة. في الوقت الذي تتوقف فيه مجلات أخرى، ويُهمَّش فيها الفعل الثقافي الجاد، تستمر الحياة الثقافية كجسد يتحرك بلا قلب، مدفوعًا فقط بدورة المال العام.
في المقابل، لا نجد حوارًا شفافًا داخل وزارة الثقافة، ولا حراكًا جادًا من الهياكل المهنية أو النقدية، لمساءلة هذا المسار المتآكل. كأنّ الجميع قرر أن يتجاهل المشهد، وأن يتعامل مع الأزمة كقدر لا مهرب منه.
لقد آن الأوان أن تعيد الدولة التونسية، ووزارة الثقافة تحديدًا، النظر جذريًا في سياساتها المتعلقة بالنشر الثقافي، وأن تفتح حوارًا وطنيًا جادًا حول معنى المجلة الثقافية في زمن متحوّل، يفرض علينا أدوات جديدة، وأسئلة مغايرة، وجرأة في المراجعة.
وحتى نكون صادقين وواضحين مع ذواتنا ، فلايمكن لأي إصلاح أن يُبنى على المجاملة أو النفاق المؤسساتي. الحقيقة اليوم، وقد صارت واضحة ومؤلمة، أن مجلة الحياة الثقافية بصيغتها الحالية لم تعد مشروعًا تنويريًا، بل تحوّلت إلى ما يشبه العار الرمزي الذي يثقل كاهل الوزارة المشرفة عليها.
ليس من النقد في شيء أن نستمر في التعامل مع الماضي المجيد كغطاء على الحاضر العليل.بل إن أول خطوة نحو تجديد الحياة الثقافية في تونس، هي الجرأة في النطق بالحقيقة، دون اعتبارات شخصية أو مجاملات ظرفية.
فلا المجلة تحقّق أهدافًا، ولا المؤسسة المشرفة عليها تملك مشروعًا واضحًا، ولا الجمهور يجد نفسه في ما يُنشر.
وحدها الصراحة، ولو بدت قاسية، يمكن أن تفتح باب التحوّل.
فالثقافة لا تُدار بالروتين، ولا تُصان بالولاء، بل تُبنى بالشجاعة، والنقد، والحلم بممكنٍ جمالي وفني مختلف.