آراء حرة

كافون : حتّى لا يكون موته مجرّد حدث عاطفي بل مولّدا لفكرة دراسية عميقة لنمط فنه

كتب سامي الطاهري*: أنا من جيل تربّت ذائقته على الطرب العربي الكلاسيكي، خفيفه وطويله، وعلى بعض من الغناء الشعبي الريفي، وزادت الأغنية البديلة من التأثير على الذائقة فلم تعد تستسيغ غناء آخر. لكن بظهور أنماط جديدة من الغناء والموسيقى لفت انتباهي شخصيا بعضُها ك" الراب " على سبيل المثال، وخاصة في العشرية الأخيرة.

فعندما كنت أتنقل إلى الجهات، كنت أستمع إلى بعض البرامج على موجات الراديو ومنها حوارات تمّت مع فناني" الراب"، فاكتشفت عند بعضهم موقفا ورأيا وقناعات تثير السامع وتدهش المتتبّع وأذكرعلى سبيل المثال مجموعات من منزل بورقيبة ومن سوسة ومن العاصمة، وهممت كثيرا أن أكتب دعوة إلى المختصّين لدراسة هذا النمط من الفنّ الزاخر بالتمرّد، معنى ولغة وإيقاعا..

وقد زادت قناعتي بذلك ايضا وأنا أتابع الصراعات بين مجموعات " الراب " و" الكلاش" بين الفنّانين والتي يدور محتواها في كثير من الأحيان حول موقف وليس حول صراع شخصي، وكذلك تعدّدت القضايا التي أحيل فيها بعضهم على المحاكم في صراع مع الأمن أو مع جهات رسمية أخرى. 

كما تعدّدت قصص النجاح التي تروي سيرة كفاح كثير منهم ممن يخرجون غالبا من أحياء شعبية مفقّرة ومن عائلات معدمة لكنّهم ظلّوا دوما مشدودين إلى جذورهم يحاولون انتشال أوساط من الشباب المهمّش بما تسمح به لهم إمكانياتهم المادية، بل فيهم من تحوّل إلى أيقونة حومانية ومثالا أعلى. 

حتّى جاء موت "كافون "، رحمه الله، فعزّز لدي تلك الرغبة في حثّ البحث الأكاديمي لدراسة هذه الموجة المؤثّرة والتي أصبحت صانعة لمحتوى جدير بالنظر والبحث، وقد شجّعتني تدوينة الأستاذ الدكتور محمد صالح عمري ** على التأكيد على هذه الدعوة حتّى لا يكون موت فنّان مجرّد حدث عاطفي بل مولّدا لفكرة دراسية عميقة لهذا النمط، على غرار ما وقع من دراسات غزيرة حول الفنّ الثائر في أنحاء كثيرة من العالم مثل" البلوز" BLUES و"الريقي"  REGGAE وقوسبول GOSPEL والجاز JAZZ والصول SOUL والفانك FUNK وغيرها التي لم تكن مجرّد أعمال فنّية، وإن انطلقت عفوية في البداية، بل أصبحت، بمرور الوقت وتجذّر الوعي، أدوات مقاومة وتعبيرًا عن الكرامة، ودعوة إلى التحرر والعدالة الاجتماعية ومواجهة للإقصاء والحيف والتمييز والعنصرية ...

إنّ بحوثا كتلك التي أجريت في مناطق كثيرة (مثلا على غناء الزنوج في أمريكا) ستكون بلا شكّ تثمينا لهذا النمط من الفنّ (الراب التونسي) وإسهاما في مزيد "صقله" لا بمعنى تجريده من تمرّده بل دفعا إلى تجذّره وتعميقا لوعيه. 

* تدوينة نشرها على حسابه الخاص يوم 12 ماي 2025.

** كتب محمد صالح عمري:  
... وكافون يغادرنا جسدا، يجب أن نتذكر دائما أنه كان مكونا فاعلا وأصيلا في انتفاضة فنية ملتحمة بالواقع المحلي التونسي ومتناغمة مع تعبيرات فنية عالمية رائدة من الكراييب إلى هارلم. وكان بذلك في انقطاع وتواصل دائم ، وقلق مع المحلي والكوني. تماما مثلما يكون الفن الأصيل المشتبك مع الواقع المتحرك. حوماني بالمعنى المفتوح. ترك أثرا على الخارطة ولم يمرّ على الأرض كظله. ما تبكيشي يا يا عينيا.