من يهندس الاحتجاج في تونس؟ بين إفراغ الصراع الطبقي من مضمونه وتحويل الاتحاد إلى متهم.

الشعب نيوز/ رأي حرّ: منذ مدّة، تتوالى الإضرابات والاحتجاجات في قطاعات حيوية من الاقتصاد الوطني، في مشهد يبدو متشابكا، تتداخل فيه العفوية بالنوايا المضمرة، وتختلط فيه المطالب الاجتماعية بخيوط السياسة الدقيقة. غير أن ما يجري في العمق يتجاوز هذه المظاهر الظرفية: إنه صراع على المعنى نفسه، على من يملك الحق في الحديث باسم الشعب، ومن يحق له أن يحدّد ما هو “الصالح العام” في زمن تختزل فيه الدولة في أرقام مالية وتحوّل فيه العدالة الاجتماعية إلى شعار مهترئ.
فالسلطة الحالية، التي ترفع شعار “الاستقرار” كذريعة لكلّ تقييد، لا تتعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية كمرآة تعكس خللا في الخيارات الاقتصادية، بل كتهديد ينبغي تحييده أو تفكيكه. إنّها تشتغل بمنطق محسوب: لا مواجهة مباشرة، ولا قمع فجّ، بل هندسة دقيقة للوقائع تجعل الخصم يبدو كأنه يعتدي على المصلحة الوطنية.
خذ مثلا ما يحدث اليوم في قطاعات النقل والبنوك . هذه القطاعات ليست عادية، بل هي شرايين الحياة اليومية: بها يتحرّك المواطن، ويتلقى أجره، ويدير شؤونه. حين تتوقف، يرتبك الإيقاع العام، ويصاب المجتمع بالشلل. عندها يسهل تمرير الرواية الرسمية: الاتحاد يعطل البلاد، الاتحاد يهدد الاستقرار، الاتحاد يعيش خارج الزمن الوطني.
لكنّ ما لا يقال هو أن هذه القطاعات نفسها تدفع دفعا إلى حافة الانفجار. فالمفاوضات تعلّق، والجلسات تلغى، و التّفاقيات تجمّد، والالتزامات السابقة تنكر. بينما تمنح قطاعات ثانوية اتفاقيات سريعة ومرضية، في مسرح يبدو مرسوما لتغذية الانطباع بأنّ الإشكال ليس في الدولة بل في الاتحاد.
هنا يتجلّى وجه جديد من إدارة الصراع الطبقي في تونس: لم يعد الهدف فقط كسر إرادة الطبقة العاملة، بل تآمر لإعادة تشكيل الوعي الجمعي بحيث ينظر إلى النقابي كمخرّب، لا كمناضل. إنها عملية “إعادة برمجة” اجتماعية بطيئة، تستخدم الإعلام والبيروقراطية والقوانين وحتى الصمت كسلاح ناعم ضد أي صوت مستقل.
السلطة لا تريد حوارا، بل ولاء. لا تريد تفاوضا، بل إذعانا. فهي لم تعد تؤمن بوجود طرف اجتماعي يمكن أن يكون شريكا في إدارة الشأن العام، لأن وجود هذا الطرف نفسه يذكّرها بأنّ المجتمع ليس كتلة صامتة، وأنّ الحكم ليس تفويضا مطلقا بل عقدا بين طرفين.
ولذلك فإن تهميش الاتحاد العام التونسي للشغل ليس قرارا إداريا أو خيارا تكتيكيا، بل جزء من مشروعٍ سياسيّ شامل يرمي إلى تفكيك كلّ شكل من أشكال التنظيم المستقلّ عن السلطة التنفيذية، سواء كان نقابيا أو جمعياتيا أو حزبيا. فالمجتمع المدني المرغوب فيه اليوم هو ذلك الذي يصفّق ويبارك ولا يطالب، الذي يتحرك وفق “رزنامة الدولة” لا وفق نبض الطبقات الكادحة.
إن ما يحدث هو محاولة لإفراغ الصراع الاجتماعي من مضمونه الطبقي وتحويله إلى مسرح منضبط، حيث يسمح بالاحتجاج المؤطر والمحدود، ويمنع كلّ ما يتجاوز خطوط الطاعة. وفي هذا المعنى، لا يراد للإضرابات أن تكون أداة ضغط من أجل العدالة، بل أن تتحول إلى “دليل” على فشل الاتحاد وضرورة كبحه.
لكنّ التاريخ التونسي لا يمحى بمراسيم. هذا الاتحاد الذي يحاولون اليوم تصويره كـ”عقبة”، هو نفسه الذي قاد الإضرابات الكبرى في أربعينات القرن الماضي ضد الاستعمار، وواجه في الخمسينات قمع بورقيبة حين حاول احتواءه، ووقف في وجه نظام بن علي حين كانت الكلمة الحرة تهمة. لم يكن الاتحاد يوما مؤسسة فوق الطبقات، بل ظلّ رغم تناقضاته مرآة لصراعها اليوميّ من أجل الكرامة والعمل والحرية.
إن الصراع القائم اليوم ليس بين الحكومة والاتحاد فحسب، بل بين منطقين:
منطق يرى في العامل “عنصر إنتاج”
يمكن استبداله بأرخص ثمن، ومنطق يرى في العامل كائنا إنسانيا له كرامة وحقوق لا تختزل في الأجر. منطق يريد دولة بلا مجتمع، ومنطقٍ يريد مجتمعا قادرا على مساءلة الدولة.
ولأنّ كلّ سلطة استبدادية تخشى الصوت الجماعي المنظم، فهي تسعى دائما إلى تفتيت الطبقة العاملة عبر بثّ الشكوك داخلها: تارة باتهام قياداتها بالفساد، وتارة بتقسيمها إلى نقابات موالية ومعارضة، وتارة بتحريك الرأي العام ضدها عبر الإعلام. إنها سياسة “فرّق تسد” بلباس حديث، يدار عبر الميكروفونات لا الهراوات.
لكنّ ما لا تدركه السلطة أنّ تفكيك الاتحاد ، أو محاولة ترويضه ، لن ينهي الصراع الاجتماعي، بل سيحرره من قنواته المنظمة. فحين يمنع العمال من التعبير داخل الأطر الشرعية، سينفجر الغضب خارجها. وحين يغلق باب الحوار، تفتح أبواب الفوضى.
إن القوى اليسارية الثورية في تونس مدعوة اليوم إلى تجاوز الموقف الدفاعي، وإلى إعادة طرح السؤال الجوهري: كيف نحمي الاستقلالية النقابية دون أن نسقط في التواطؤ البيروقراطي؟ كيف نعيد للنضال الاجتماعي روحه الجماعية التحررية بعيدا عن الشعارات الفارغة؟ كيف نربط المعركة النقابية بالمعركة السياسية الأشمل ضدّ النيوليبرالية والاستبداد؟
فالإضرابات ليست هدفا في ذاتها، بل وسيلة لفرض تصور آخر للمجتمع: مجتمع يدار وفق حاجات الإنسان لا وفق شروط السوق. وما لم تفهم هذه البنية الطبقية لما يجري، فسيبقى كلّ إضراب مجرّد حدث عابر، وكلّ اتفاق هشّ، وكلّ نصر مؤقت.
إنّ ما يراد اليوم هو “تأديب” الاتحاد حتى يعود إلى بيت الطاعة، لكنّ من يظنّ أن الطبقة العاملة ستصمت إلى الأبد لم يقرأ تاريخ تونس جيدا. فكلّ محاولة لإخماد الصراع الاجتماعي هي تأجيل للانفجار القادم، وكلّ تهميش للنقابات هو توسيع لدائرة الغضب الصامت في المصانع والمكاتب والحقول.
الرهان إذن ليس على السلطة، بل على وعي العمال والمثقفين والمناضلين بأنّ الدفاع عن الاتحاد اليوم هو دفاع عن فكرة المقاومة ذاتها، عن حقّ الناس في أن يكون لهم صوت جماعي لا تكتبه الحكومة ولا تحدّده القوانين.
قد يقال إنّ الاتحاد لم يعد كما كان، وإنّ قياداته ابتعدت عن قواعدها. هذا صحيح ، لكنّ الحلّ لا يكون في شيطنته، بل في دفعه نحو الديمقراطية الداخلية وتجديد دمائه، لا في تحويله إلى شاهد صامت على انهيار مكاسب الطبقة العاملة.
إنّ اللحظة التاريخية الراهنة تتطلب جبهة اجتماعية واسعة، تتجاوز الاصطفافات التقليدية، وتعيد الاعتبار لمفهوم “الصراع الطبقي” الذي حاولت النيوليبرالية دفنه تحت ركام المصطلحات الزائفة. فالمعركة اليوم ليست حول الأجور فقط، بل حول من يملك القرار في هذا البلد: رأس المال أم العمل؟
وختاما، يمكن القول إنّ ما يجري ليس أزمة نقابية، بل إعادة رسم للسلطة الاجتماعية في تونس. فإما أن يفرض الصمت وتختزل البلاد في صوت واحد، أو أن يستعاد الفضاء العمومي كميدان للصراع الاجتماعي الحقيقي، حيث ترفع رايات الشغل والحرية والكرامة لا كشعارات انتخابية، بل كحقوق تنتزع بالنضال.
رياض الشرايطي