الثقافة الشعبية مقابل الثقافة المؤسسية: الصراع بين الواقع والتظاهر

في مجتمعنا التونسي، تتعايش طريقتان متناقضتان في إنتاج المعرفة والقيم الثقافية: الثقافة الشعبية، أو "ثقافة الناس في الميدان"، والثقافة المؤسسية، التي تحاول الهيئات الرسمية فرض نفسها على الجميع. هذه الفجوة ليست مجرد اختلاف في الأذواق، بل حرب مستترة على ما يُعتبر شرعياً أو مشروعاً، تفضح هشاشة كل محاولة لتوحيد المجتمع تحت شعار واحد.
وفقاً لبورديو، الاختلافات الثقافية تُصاغ ضمن الهبيتوس، أي العادات والتصرفات المتجذرة التي تحدد مع من نتفق ومع من نصطدم. وهكذا، تتحوّل مجتمعياتنا إلى طبقات وقبائل متناحرة، كل منها يظن نفسه الحامي للمعايير، بينما يكرر الخضوع لتقاليد لم يضعوها هم. الأساس القبلي والقبليّة ما زالت تلعب دوراً خفياً لكنها فعالاً في تقوية الانقسامات.
خذ مثالاً على ذلك سيدي بوسعيد: للزوار كل شيء يبدو متناسقاً ورائقاً، لكن وراء الواجهات البيضاء والأزقة المرصوفة، يتآكل الملاط الاجتماعي. ما يبدو متماسكاً عند البعض هو عند الآخرين انهيار كامل، يكشف هشاشة العلاقات والروابط التي اعتقدنا أنها صامدة.
الثقافة المؤسسية؟ لا يقبلها أحد، لا النخبة ولا العامة؛ ما هو رسمي لا يعكس احتياجات أو رغبات أي طرف. كل مجموعة تحرك الرموز الرسمية وفق هواها، أحياناً بشكل مبالغ فيه، مضخّمة الفروق وكأنها تنافس على تمييز نفسها عن البقية.
اليوم، نحن نعيش في مجتمع تظل فيه فئة واحدة فقط مرتاحة ضمن إطار رسمي، بينما الآخرين يكابدون الاغتراب الثقافي، حتى في مجالات بسيطة مثل الرياضة. الاستعمار والحقبة البورقيبية، بسلطتها المستنيرة المستبدة، حاولت فرض رؤية مزيفة للتمدين، تحويل الناس إلى رعايا منضبطين. المشهد الحضري أصبح عذاباً للروح، إن لم يقر المعماريون بدورهم الحقيقي، ليجمعوا ما تفرّق ويعيدوا إنتاج بيئة شاملة، قادرة على بناء شعور بالوحدة والانتماء.
خاتمة
الثقافة الشعبية والمؤسسية ليستا خصمين لا يلتقيان، لكنها مساحة صراع مستمرة بين الواقع والتظاهر. من يدرك نقاط الالتقاء ويستثمرها بحكمة، مع احترام دينامية الثقافة الشعبية، يمكنه أن يخلق مجتمعاً أكثر عدالة وشمولية. أما من يصر على التظاهر بالقوة الرسمية، فسيجد نفسه أمام مجتمع مفكك، يرفض الاستسلام للأوهام الرسمية، ويطالب بحق التعبير عن هويته الحقيقية.
إلياس بلاّغة
مهندس معماري
البريد الإلكتروني: bellagha_ilyes@yahoo.fr