ثقافي

جرانتي العزيزة " : العرض الاخير و الوصية الفنية لفاضل الجزيري من ركح مهرجان الحمامات الدولي"

المركز الإعلامي لمهرجان الحمامات الدولي - كمن يختار الركح منصة الوداع، قدم فاضل الجزيري على مسرح الحمامات أمس الأحد 10 أوت 2025 مسرحيته "جرانتي العزيزة" التي جاءت كشهادة فنية مكثفة حول علاقة الفن بالسياسة في تونس من الاستقلال إلى ما بعد الثورة.

وقد كان هذا العرض الذي تم تقديمه ضمن الدورة 59 لمهرجان الحمامات الدولي بمثابة رسالة حب ووفاء لجمهوره وبلده وتاريخه، وكأنه يدرك أن هذه الليلة ستكون الأخيرة.

ففي فجر اليوم الموالي، أسدل الستار على حياته ليرحل تاركا إرثا من الإبداع سيبقى حاضرا في ذاكرة المسرح والسينما والموسيقى التونسية والعربية.

ولطالما كان المسرح مرآة الشعوب وذاكرتها الحية، يوثق أحداثها ويعيد تشكيلها ويثير الأسئلة الكبرى. في "جرانتي العزيزة" يروي الجزيري عبر شخصية "ماهر" الملقب بـ "بيتهوفن" رحلة حياته المهنية التي امتدت لنصف قرن في فرقة الإذاعة الوطنية كاشفا تداخل الفن بالسياسة وكيف ظل الفنان شاهدا وشريكا في صناعة المشهد العام.

ويبدأ العرض بمشهد عزف على البيانو من إلياس البلاقي، حيث تفتح إشراق مطر نافذة الحكاية وكأن الجمهور يخطو إلى "ألف ليلة وليلة"، إلا أن المسرحية تكشف سردية معقدة بين السيرة الذاتية والفصل السياسي والتأمل الفني.

ويتميّز العمل الفني بتوليفته الغنية بين التمثيل والموسيقى والغناء والرقص بتوزيع متقن للآلات الموسيقية بين لطفي الصافي (تشيللو) وإلياس البلاقي (بيانو) ومهدي ذاكر (كمنجة). وتبرز على الركح عروض تمثيلية متقنة من إشراق مطر وسليم الذيب مع الكوريغراف غيث نفاتي، وهو ما يجعل المسرحية متعددة الأبعاد، تنسج شبكة من المشاهد التي تعكس الحياة السياسية والثقافية في تونس عبر عدة عقود وتترجم أيضا صورة فاضل الجزيري كفنان متعدد التجارب والاختصاصات.

وعلى مدى ساعتين، يستحضر الجزيري شخصيات سياسية وثقافية مؤثرة في تاريخ تونس من الحبيب بورقيبة واليوسفيين والهادي نويرة وأحمد بن صالح والشاذلي القليبي وعبد الرؤوف الباسطي، إلى مجموعة "برسبكتيف" ولحظة اندلاع الثورة ومغادرة بن علي البلاد في 14 جانفي 2011. كما يكرم في المسرحية كبار الموسيقيين والمسرحيين من أساتذة المعهد الوطني للموسيقى مثل أحمد عاشور "زلاطكا" و"ياروش" و"سترينو"، إضافة إلى عبد الحميد بن علجية والسيد شطا ومحمد إدريس والحبيب بولعراس ولمسة وفاء للمصور الحبيب المسروقي.

جسدت المسرحية ثنائية الحب والخيانة من خلال علاقة ماهر بزوجته التي كانت رفيقة دربه الفني والإنساني، لكنها قررت في النهاية الانفصال عنه والاستقرار في السعودية، بينما فضل هو "الجرانة" والكمنجة على حياته الزوجية. وهذا البعد الرمزي يحمل قراءة سياسية موازية تمثل مراحل التحول والانكسار التي مرت بها البلاد بعد الثورة.

ويطرح العرض تساؤلات عميقة حول علاقة الفن بالسياسة ودور المؤسسات الفنية الرسمية في المشهد الثقافي، حيث يؤكد "ماهر" أن فرقة الإذاعة الوطنية فقدت روحها مع ابتعادها عن السياسة وتحولت إلى مجرد فرقة صغيرة تتقاضى أجرا دون إبداع حقيقي.

* مسيرة فنية حافلة وإرث خالد 

وُلد الفاضل الجزيري سنة 1948 وبدأ شغفه بالمسرح في أواخر الستينيات ضمن نادي الشبيبة المدرسية بالمعهد الصادقي، قبل أن يكمل دراسته في لندن وباريس.

عاد لتونس ليؤسس عام 1971 مهرجان المدينة وفرقة مسرح الجنوب بقفصة، حيث ساهم في نشر حركة اللامركزية الثقافية بأعمال بارزة.

قدم أعمالا مسرحية خالدة مع فرق "المسرح الجديد" منها "الكريطة" و"العرس" و"الورثة" و"التحقيق" و"غسالة النوادر". كما أسّس "تونس للإنتاج" بعد 1990 وواصل تقديم عروض مسرحية وسينمائية متنوعة، حاز بعضها جوائز وأقام تاريخا في المهرجانات الكبرى.

وحقق الجزيري نقلة نوعية في العروض الموسيقية عبر عروض مثل "النوبة" و"الحضرة" و"نجوم" و"كاليغولا". ونال مكانة رائدة في السينما من خلال أفلام مثل "العرس" و"غسالة النوادر" و"عرب" و"ثلاثون" و"خسوف" حيث خلد فنه عبر مراحل متجددة.

وفي سنة 2022، حقق حلمه بتأسيس مركز الفنون بجزيرة جربة الذي جسّد فكرته في تعزيز اللامركزية الثقافية وتثمين التعبيرات الفنية الجهوية ليكون منارات جديدة للإبداع التونسي.

وببالغ الحزن والأسى، ينعى مهرجان الحمامات الدولي رحيل الفاضل الجزيري أحد أعمدة المسرح والسينما في تونس والعالم العربي، مؤكدا أن إرثه سيبقى منارة للإبداع وذاكرة حضارية لا تنطفئ. كما يتوجه بأسمى عبارات التعازي إلى عائلته والأسرة الثقافية والفنية راجيا من الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يرزق أهله وذويه جميل الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون.