آراء حرة

من يتعلّم الموت ينسى العبودية 14 جوان 1928 ذكرى ميلاد ارنستو تشي غيفارا

بقلم ناجي الخشناوي

كتب الروائيّ الكولمبي «غابريال غارسيا ماركيز» مرة انه يتوجّب عليه لكتابة سيرة الثائر الامميّ الأرجنتينيّ الأصل «أرنستوتشي غيارا»، أن يعيش ألف سنة وعليه أن يوفّر أطنانا من الورق لإنجاز مثل تلك المهمة. ورغم أن «تشي» لم يعش إلا 39 سنة فقط إلا أن حياته كانت مليئة بالأحداث، بالمعارك والبطولات وبالثورة الدائمة.
وعلى امتداد سنين عمره كان يتعلّم كل يوم كيف يموت ولا يموت من اجل انتصار الشيوعيّة في العالم وتحقيق الأممية البروليتاريّة، وحياته قصيرة ولكن قيمة الحياة ليست في امتدادها وطول أعوامها وإنما تكمن في كيفية استخدامها وبمقدار ما يكون امتلاك ناصية الحياة قصيرا يتعين علينا جعلها أكثر عمقا وامتلاء، ولذلك كان «تشي» طوال حياته القصيرة مثل بركان لا تخمد ثوراته ولا تبرد حممه، يتحرّك وفق الشعار النيتشويّ «عش دائما في خطر». لم يكن لا سيزيفيا ولا دونكيشوتيا ،فقط كان زراداتشيّا على يقين ثابت من انتصار العدالة، ولم تساوره إلا الرغبة في الموت من اجل الوطن والحرية ودولة العمّال الكونية ، وظل يردد حتى آخر نبض فيه : «إما الوطن وإما الموت».

لم يكن يعنيه تحرير شعبه الأرجنتيني او الكوبي أو الشيلي او البوليي او كامل شعوب أمريكا اللاتينية بقدر ما كان يعنيه تحرير آخر المضطهدين في العالم من ربقة الامبريالية المتوحشة، امبريالية اليانكي، أنها الأمميّة الشيوعيّة بأبعادها الإنسانية المتجاوزة لأطر الرأسماليّة الضيّقة القائمة على العنصريّة والاحتكارات.
أن من لا يملك إرادة الموت لا يمكنه أن يملك إرادة الحياة، لأننا نحيا مع الموت في كل لحظة ولا نموت للحظة واحدة والمهمة المتواصلة لحياتنا هي أن نبني صرح الموت الذي لا مناص منه، إذ بقدر ما يتعين علينا أن نعزو لحياتنا شكلا من أشكال الوعي، فإنه ينبغي علينا أيضا وضرورة أن نعزو أيضا لحياتنا ضربا من اليقين الحدسي بالموت الذي قد يكون شرّا يترصدنا في كل منعطف ولكنه حتما ليس أمرا عبثيا لا تسوّره حكمة ما، وموت «ارنستو تشي غيفارا» لم يكن موتا عبثيا ولا موتا نهائيا، فقط اضطر للمغادرة والرحيل إلى جبهة قتال جديدة لان الثورة لا تنتظر أحدا كما كان يقول دائما كلّما كان على أهبة مهمّة ثورية جديدة. لقد حمل سلاحه ودّس داخل حقيبته الظهرية، كعادته، كتابات كارل ماركس وإنجلز ولينين والأعمال الشعرية الكاملة لبابلو نيرودا وخوسي مارتي وبعض من روايات أرنست همنجواي وحمل أيضا مع حزام الرصاص حزمة أوراق وأقلام ليكتب «يومياتي في بوليفيا» و»حرب الأنصار» و»لمحات من الحرب الثورية» وأيضا ليدوّن رسائله الحميمة لزوجته إليدا وأبنائه إلدينا،كاميليو.سيلياوإرنستو و إلى رفاقه في مختلف الجبهات، فالفكر عنده لم يكن يوما بمعزل عن الثورة أو العاصفة، والموت ليس بمنأى عن الحياة ولهذا ظل «تشي» حيّا بين المقاومين في كل العالم ولم يكن موته المادي إلا مولدا إلى رحاب الأزل وما لانهاية الزمن بفضل إرادته الحرة وثبات موقفه، فمن شهر السلاح مرة واحدة في وجه الامبرياليّة لا يمكن إن يُسقطه من يده أبدا وان فعل فالامبريالية ستحفر قبره، و «تشي» لم يستسلم ولم يُلْق السّلاح بعدُ لأنه لا يزال يُطلق رصاصه على الامبرياليّة والصّهيونية في القدس وجنين ونابلس ورام الله والضفة الغربية وقطاع غزة وفي بغداد والفلّوجة وكربلاء والبصرة ولبنان وسوريا... وإن مات «تشي» الأرجنتيني فإن في العالم مليون «تشي» فلسطيني وعراقي ولبناني وإفريقي وآسيوي... وحال كل مقاوم منهم يذكر في دخيلته قول «غيارا» «أن الكفاح المسلح هو الوسيلة الثورية الوحيدة القادرة على الإطاحة بالدكتاتورية، ولن نحقق العدالة بالابتهال والتضرّع والتعاويذ. على الشعب أن يقوم بمهمة واحدة هي النضال» ولا ينسى أيضا دقة كلام خوسي مارتي وتفاؤله الشديد عندما قال: «إن جوهر المسألة لا يكمن في كم من السّلاح تملك في يديك وإنما كم من نجمة في السماء تريد أن تصطاد». وعدوى التفاؤل هذه صارت تسري لدى فصائل المقاومة الفلسطينية والعراقية واللبنانية اليوم فأبناء الحجارة وأحفاد الرّصافة لا يملكون ترسانات من الأسلحة وقرارات أممية وتواطئا عربيا وإنما يمسكون حجرا بيد ونجمة بيد أخرى، باسقين كشجر النخيل في العراق، لأن الثوري ليس مسموحا له ان ينهار فنهوضه يساوي نهوض العالم وان مات فوقوفا لا ركوعا.

الكتابة عن الذين نحبّهم مربكة ومذهلة في آن.تُفْقدُكَ التوازن المنهجي فيختلّ نصّك بين العلمي والأدبي ويتفكّك التماسك اللغوي بين المجازي والعادي فتتلبّس في ذهنك المفردات ولا تتمكن من ترتيب أفكارك أو تبويب فقرات نصّك حتى انك تنسى ان تعرّف بهم، وان كانوا معروفون بطبيعتهم، تنسى حتى إن تذكّر ببعض تفاصيل حياتهم، خاصة إذا كان الأمر يخص «تشي غيارا» والأمر ليس بالغريب فإذا ما اغضضنا الطرف عن الكتابة وأسلوبها وتملّصنا من حلم الأدب وشجونه لنلج منطق التاريخ الصارم وواقع الأحداث ،فان طبيعة المرحلة المتردية سياسيّا وحقوقيّا واقتصاديّا وإنسانيا تفترض ان نذكر بنبذة عن هذا الثّائر الذي قال عنه جون بول سارتر «أنا لا أرى انه كان ذو عقل نافذ فقط، بل انه الانسان الاكثر كمالا في عصرنا الحاضر». وللتذكير نقول أن الكومندان «غيارا «وُلد في بيونس ايرس عاصمة الارجنتين يوم جوان من أب يحترف الهندسة المعمارية، وقد درس الطب في الأرجنتين موطنه الأصلي وبعد سقوط النظام الشعبي الغواتيمالي على يد عملاء واشنطن انتقل «غيارا «الى المكسيك حيث تعرف إلى راؤول كاسترو الذي قدمه الى أخيه فيديل، وهناك تلقى «تشي» تدريبا في تكتيك حرب العصابات تحت إشراف الكولونيل ألبرتوبايو، ثم التحق بكوبا مع طلائع الثوار على ظهر الغرانما وصعد إلى سيارا ما يسترا حيث اشتهر كمنظم عسكري برغم معاناته الدائمة لنوبات الربو.

في مطلع عام تلقى الأوامر من فيديل كاسترو بغزو إقليم لاس فيلاس فأخترقها بفرقته العسكرية قليلة العدد وتمركز في جبال سييرا دل اسكامبراي وأشرف من موقعه على تنظيم القوات المناهضة للدكتاتور باتيستا، وقد كان «غيارا» المخطط الاستراتيجي لمعركة سانتا كلارا الشهيرة ،وفي جوان كان أول من دخل العاصمة لاهابانا على رأس الباربودوس  «Los Barbudosس أي الملتحون وهو لقب ثوار كوبا الذين أرسلوا لحاهم وأقسموا ألا يحلقوها حتى تتحقق أهداف الثورة. وبعد انتصار الثورة صار «غيارا» قائدا لقوات لاكابانا « Lacabana ثم أصبح وزيرا للصناعة فرئيسا للبنك الوطني في كوبا وكان أول قرار اتخذه بشأن البنك هو تخفيض راتب رئيس البنك (الذي هو ذاته آنذاك) من أربعة آلاف إلى ألف ومئتي بيزو.

هذا هو «إرنستو تشي غيارا»يقتسم الخبز والحلم مع الفقراء ويطلق الرصاص على اليانكي، رحل ولم يترك لأبنائه أية ممتلكات بل انه إئتمنهم عند الدولة لإيمانه الرّاسخ بأن الثورة تضمن لهم الحياة والتعليم.
"أتيت مغنّيا هذه السامبا

بإيقاع حرّ من قيوده

لقد قتلوا المحارب الشجاع

غيفارا القائد...

الأدغال، الأدغال...

آجام القصب والجبال سترددّ:

"الوطن أو الموت"

تلك كانت صرخته

بوليفار أشار إلى الطريق

وغيفارا الشجاع سار عليها

حاملا أعلام المجد من كوبا الأم

بوليفيا تبكي الآن

حياته التي ضحّى بها

آه أيها القديس أرنستو من الهيبيرا

هكذا كان الفلاحون يدعونه

الأدغال، الأدغال...

"الوطن أو الموت"

تلك كانت صرخته التي لم تمت".

)فيكتور جارا شهيد سانتياغو(

يقول «أرنستو تشي غيارا» في أحد كتاباته: «نحن في الاشتراكية أكثر حرية لأننا أغنى ونحن أغنى لأننا أكثر حرية ونحن نضحّي عن وعي وهذا ثمن للحرية التي نناضل من أجلها، فإما أن نحقق الحرية وإما أن نبقى معذبين، وإذا ما استشهدنا فسيرفع الاخرون سلاحنا ويستمرون في الطريق، طريق النضال وطريق الحرية». فان كنا ننشد الحياة من الموت نحن المحاصرون بصمتنا الأبدي المضروب على حناجرنا وأقلامنا وحتى على أحلامنا الصغيرة فانه حُري بنا ان نناضل للوصول للهدف الأسمى المتمثّل في أن الإنسانية مستقبلا ستذكّرنا بالحب وبالحرية.

ذكرى «تشي» تنطلق تماما كفراشة قزحيّة مثقوبة برصاصة على ذاكرة النسيان والتجاهل، ذاكرة الصمت والخوف، التي استحالت الى كيس من الرمل يعسر معه السير كما وصفها الطاهر بن جلون، ذاكرتنا نحن المسكونة بشبح الامبريالية الأمريكية والصهيونية العنصرية وأنظمتنا العميلة لهما سرّا وعلنا والمسنودة بجحافل البوليس وزيف خطاباتها التعبوية والمتنازلة عن أوطانها وثرواتها لولا صمود المقاومين والشرفاء فما هذا الوطن العربي الموبوء بالخيانات والطافح بالجبناء المدمنين على استهلاك زهرة «اللّوتس» التي تروى عنها الأساطير أنها تسبّب حالة من النّسيان المزمن إلا مزادا علنيا تديره عصابات لا تُتقن إلا بيع الوطن والتاريخ والشّرفاء ولم يخلّفوا إلا ثروات وطنيّة منهوبة وانتهاكات حقوقيّة مرذولة وبرامج ثوريّة مقموعة وعقول مفكّرة مسجونة...

ذكرى «تشي» الذي مشى الى موته بلا وجل ليحيا وطنه وأوطان المستعمرين ،تنطلق كرصاصة لتخرج القيم والمفاهيم من قمقم اللغة الرّثة الى عظمة الفعل الحي المنبثق من المعادلة الوجودية: الحرية تساوي الموت والموت يساوي الحياة.

 «غيارا مات آخر خبر في الراديوهات /في الكنائس والجوامع /في الحواري والشوارع /وعالمقاهي وعالبارات...» هذا ما غناه الشيخ إمام عيسى. «إرنستو تشي غيارا» مات يوم 9 أكتوبر ولكن ظلت رائحة الثورة تعبق من قبره ويظل النضال منطلقا إلى الأبد من ذكراه ولهذا غنّت مجموعة البحث الموسيقي للأمل فقالت «غيارا آت.../أراه وشما على سواعد العمال/ أراه أملا في عيون الأطفال...»، فغيارا أتى منذ سنة حينما اندلعت الانتفاضة الباسلة في أرض  فلسطين ، ولا زال يسير حذو أطفال الحجارة هذه الأيام ويخطط مع أبطال المقاومة في العراق وجنوب لبنان وكلهم يرفعون شعارا موحّدا : «يا ثوّار العالم اتحدوا» وهناك ملايين الأطفال الذين ينشدون مع الشاعر فريديركو ارثيا لوركا قوله :

 "أريدهم أن يدلّوني أين يوجد ذلك الطريق الذي يفضي إلى هذا القائد الذي كبّلته أغلال الموت"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نُشر هذا النص لأول مرة يوم 7 أكتوبر 2006 بجريدة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل.