آراء حرة

حركة "فتح" ستبقى، طالما أن الشعب الفلسطيني بحاجة لحركة وطنية وتعددية متنوعة.

بقلم يوسف بزّي

برز الكاتب السياسي الفلسطيني ماجد كيالي، في العقدين الأخيرين، كناقد جرئ باستقلاليته وموضوعيته ومثابرته. وإذا كان ينتسب بديهياً إلى الهمّ الفلسطيني، فإنه كان دوماً ينتمي إلى القلق العربي وأسئلته. مقالاته شبه اليومية، مشتبكة بعمق مع التحولات والتغيرات والمفاجآت السياسية وعواصفها. وإذا كان هو ابن "النكبة" الفلسطينية، فهو اليوم ابن "المأساة" السورية، طالما أنه قضى عمره في البلد المنكوب.
ينحاز كيالي باستمرار إلى حرية التفكير والتحليل والنقد، مواكباً السجال العربي، الفكري والثقافي. وبانحيازه إلى رحابة المساءلة والمراجعة، حفظ دوماً قدرته على صوغ رأيه المستقل.

محاولة أولية لقراءة موضوعية
على هذه الخلفية، ألف كتابا عن حركة  "فتح" يمكن اعتباره  بمثابة محاولة أولية لقراءة تجربتها بصورة موضوعية ونقدية. بمعنى أن الكتاب ليس سرداً لسيرة هذه الحركة وتاريخها المفعم بالأحداث، وإن تضمّن بعضها، كما أنه ليس كتاباً لعرض مآثر وإنجازات "المقاومة الفلسطينية"، ولا هو في معرض ذمها أو استعراض عيوبها. بل على الأرجح، يميل ماجد كيالي إلى اعتبار "فتح" الحركة الوطنية الأكثر شبهاً بشعبها، بما تنطوي عليه من تنوع وتعددية وانفتاح، مع البساطة والحماسة العاطفية.
وإذا كانت الكتب التي تنتقد حركة سياسية أو حزباً أو تجربة "نضالية"، عادة ما تصدر عن خصوم تلك الحركات ومناوئيها، انطلاقاً من موقف عقائدي أو أيديولوجي نقيض، أو تصدر عن "منشقّين" يحملون مرارة تجاربهم الحزبية، وبالتالي يحملون "مراجعة" فكرية تبرر خروجهم وانشقاقهم.. إلا أن ماجد كيالي في كتابه هذا عن حركة "فتح"، لا يناوئها ولا ينشق عنها، بل يقوم أصلاً على صلة عاطفية ووجدانية معها بوصفها النواة الصلبة التي عليها تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، وأطلقت الكفاح المسلح (1965) وقادت مسيرة النضال الفلسطيني... لذا، فما يكتبه كيالي أشبه بغيرة على مصير "فتح" وسائر مؤسسات "منظمة التحرير الفلسطينية"، ومستقبل القضية الفلسطينية تحديداً.

أزمة كبيرة في البنية والسياسة والقيادة
ومبرر هذا الكتاب في ذكرى مرور نصف قرن على تأسيس "فتح"، هو واقع حال المؤسسات السياسية التي تمثّل الشعب الفلسطيني وهويته وتطلعاته. فهذه المؤسسات، وأولها "فتح"، أضحت اليوم في مواجهة أزمة كبيرة في البنية والسياسة والقيادة، حسب كيالي. وهذا يتمثل في إخفاق الخيارات التي انتهجتها طوال مسيرتها، ومن ضمنها أفول خيار المقاومة المسلحة، وإخفاق حل الدولتين، وانسداد أفق التسوية والمفاوضة، والتحول إلى مجرد سلطة، يرافقها ترهل في بناها التنظيمية، وتهمّش "منظمة التحرير"، وانحسار موقعها في القيادة، وتراجع مكانة الكيانات السياسية (الفصائل والمنظمات والأحزاب).
يؤكد المؤلف أن هذا الحال عادي وطبيعي، بعد مرور عقود على أي حركة سياسية، فكيف الحال مع حركة تحرر وطني تواجه مشروعاً استعمارياً استيطانيا بحجم مشروع "دولة إسرائيل". فعدا الإخفاقات أو الهزائم أو الأخطاء، فالحركات السياسية تتعرض مع مرور الزمن إلى الاستنزاف وإلى الترهل، بل هي تشيخ وتصبح متقادمة، بأفكارها وصيغها وأطرها التنظيمية ومنهج عملها. وهذا يصح في "فتح" كما في غيرها.
توضيحاً لفكرة المؤلف، يمكننا القول إن الفكر السياسي الذي كان يغذي الحركات الاستقلالية العربية، وثورات التحرر من الاستعمار، منذ الخمسينيات، كانت "عروبية" وقومية، أو كانت يسارية، شيوعية أو اشتراكية. 


تحولات عميقة في الفكر السياسي العربي
وكان من البديهي، أن تمسك بحركة التحرر الفلسطيني و"ثورتها المسلحة" تنظيمات وأحزاب قومية أو يسارية. لكن منذ منتصف الثمانينات حدثت تحولات عميقة في الفكر السياسي العربي، ليس فقط في تهافت الدعاوى القومية ولا في تراجع جاذبية اليسار حتى سقوطه مع انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، بل في صعود الأصولية الدينية التي باتت تُعرف بـ"الإسلام السياسي". هكذا وجدت التنظيمات الفلسطينية نفسها، عارية من منطلقاتها الفكرية والنظرية، ولم يعد خطابها الأيديولوجي قادراً على التعبئة، ولا ينسجم مع الوجدان الشعبي.
يُضاف إلى ذلك التحولات الدراماتيكية التي عصفت بالتجربة الفلسطينية، من حوادث الأردن عام 1970، إلى التورط في الحروب اللبنانية ثم الخروج الكبير من لبنان عام 1982، ونتائج حرب الخليج عام 1990 وصولاً إلى مسار مؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو، والانقسامات المتتالية، وصعود حركة "حماس" الصاعق.. إلخ.
الكتاب، إذ يعاين هذه التحولات، نقداً لمآلات حركة "فتح"، التي استطاعت مع انطلاقتها نقل الفلسطينيين من حال النكبة والتمزق والإحباط، إلى حال النهوض والتوحد والأمل، فإنه يبحث في راهن انحسارها، طارحاً بعض الرؤى لاستنهاضها، خصوصاً في الرهان على ظاهرة التيار الديموقراطي فيها. والأهم، أن المؤلف يؤكد أن الحاجة إلى حركة "فتح" ستبقى، طالما أن الشعب الفلسطيني سيظل بحاجة لحركة وطنية وتعددية متنوعة، تلهم روح الكفاح في قلبه.
-------
ملاحظة هامة : 
1.صادفنا هذا المقال لكاتبه يوسف بزّي في صفحة اخينا وصديقنا الكاتب الفلسطيني السوري ماجد كيالي. ونظرا لتطابقه مع الظروف الراهنة في الواقع الفلسطيني فإننا ارتأينا نشره في جريدتنا الرقمية مع الشكر الموصول الى العزيزين ماجد ويوسف.
2.العنوان من اقتراح قسم التحرير.