آراء حرة

في الترجمة وحراسة الحدود: قراءة في مسلسل "حرقة

محمد صالح عمري (جامعة أكسفورد)

للترجمة والمترجمين حضور لافت - وحاسم - في مسلسل "حرقة" الذي بثّته القناة الوطنية التونسية الأولى خلال شهر رمضان الجاري. والمترجمون هنا ثلاثة، ينقسمون الى صنفين، يمثل أحدهما التيجاني (أيمن مبروك) ويمثل الثاني وعد (ياسمين بوعبيد). كما أنّ المسلسل متعدّد اللغات وهو بذلك يعتمد الترجمة بين لغاته كاختيار كي يفصح عن الهمّ المشترك لإفريقيا المتعدّدة، واعترافا أنيقا بوحدة المصير رغم تعدّد الأمصار. وهو أيضا عملية ترجمة فنّية لواقع يتحدّى الترجمة.

 

وقد أثارت انتباهي شخصية المترجم في مسلسل "حرقة" لاسباب أخرى من ضمنها الالتباس في عمل المترجم والذي عبّر عنه العمل الدرامي بشكل عميق. فهو لم يكتف بإعطاء دور مهمّ جدا للمترجم حتّى حوّله إلى همزة وصل وأداة فصل لا غنى عنهما عمليا ودراميا بل تعدّاه إلى وضع المترجم موضع تساؤل وتفكير. كما أقام نوعا من المحاكمة الدرامية جعلت من المترجم متّهما، بل مجرما متلبّسا بجرائم تصل حدّ القتل. لذلك لن أتوقف هنا عند دور المترجم المنحاز للضحية أو الملتزم بقضايا العدل والمساواة والحقوق والذي تمثّله وعد، لكونه غير اشكالي في قضية الحال. أما الصنف الطاغي من المترجمين فيستحق التأمّل.

 

يقول تيجاني لأبناء بلده من سكّان المعتقل إنّهم مخطئون إذا فهموا أنّ دوره يقتصر على مجرّد الترجمة. ("مفتاح إيطاليا بين يدي، وأدخل من أريد وأمنع من أريد"، كما يقول). هو إذن ليس فقط حارس الحدود بين اللغات. وهو ليس فقط مؤتمنا على المعنى  ينقلة من لغة إلى أخرى. إنّه حارس الحدود المادية بين بلاد وأخرى. بل يتجاوز ذلك فيصبح حارس الحدود بين الحياة والموت - ألم ينتحر أحد الحرّاقة حين لم يترجم طلبه الإقامة في إيطاليا إلى واقع؟ والتيجاني أيضا يبيع الأطفال، ويتوسّط في تجارة البشر، دائما من موقعة كمترجم.  والواقع أنّ المخرج لم يخلق هذا الدور من عدم، وإن كان قد نجح في جعل المشاهد يشعر أنّ التيجاني خُلق لهذا الدور. فللمترجم التصاق بحراسة الحدود، بدل مدّ الجسور، قد يعود تاريخيا إلى بداية تعدّد اللغات ونشوء الترجمة. وقصص المترجمين من فصيلة حراس الحدود حتى القتل تملأ تراث الشعوب. ولعلّ التاريخ القريب في العراق وأفغانستان خير دليل على ذلك. فبعض مترجمي الجيش الأمريكي في الحالتين لم يكونوا فقط وسطاء لغويين، بل وسطاء بالمعنى التجاري للكلمة. كانوا سماسرة وكان أحد أدوارهم ترجمة أهل منطق المحتل إلى أصحاب الأرض، بل تعدّاه الى ترجمة الاحتلال ذاته إلى تحرير. ولعلّ أحد ابرزهؤلاء كان كنعان مكّية.

 

في "حرقة" تلعب الترجمة دورا هيكليا – وسائطيا – في نقل واقع يبدو غير قابل للترجمة بسبب ارتباطه بالتجربة الفردية الجسدية، إلى حكايا وأحاسيس.  فالدراما والمسرح فنون قادرة على محاكاة تلك التجربة بصورة يعجز عنها الأدب والسيرة المكتوبة لأن الدراما تجسم الفعل والقول وتجسّده، أي تعطيه جسدًا. فقراءتنا، مثلا، للكتاب الطلائعي حول الحرقة لفوزي ملاح الذي تنكّر في دور صحفي وحرق مع الحارقين سنة 2000 مسجّلا التجربة من الداخل في مقالات صحفية، لم ينجح بقدر نجاح ما أثارته دراما "حرقة" من ردود فعل حيّة عبّرعنها الجمهور العريض بسخاء.  فقد اعترف هذا الجمهور - فرادى وجماعيا -  بالصدمة التي خلّفتها مشاهدة واقع لا يزال يعيشه التونسيون وغيرهم منذ عقود، وإن بمسافات مختلفة.

 

و في مسلسل "حرقة" لا يُترك مترجم من فصيلة التيجاني دون عقاب، بل لعلّ عقابه بعض ما يُشفي من الحُرقة )برفع الحاء) وينجز نوعا من العدالة الدرامية، بالذات لأنها لا تخضع إلى رومنسية الميلودراما وإنّما هي أقرب إلى نوع من الإفراغ التراجيدي (كترسيس) أمام واقع مأساوي. ففي المشهد الختامي يُترك الضحايا عراة عزّل: البحر أمامهم والبوليس وكلاب الحراسة – بما فيهم المترجم - وراءهم، ولا سماء تضلّلهم برحمتها. لقد حاولوا، تماما كأبطال التراجيديا الحديثة، أن يسدّدوا ضربات بطولية تجاه قدَرهم وأن يغيّروه. بل لقد حُكم على العديد منهم، عيّاد (أسامة كشكار) مثلا ، تماما مثل سيزيف، بأن يرتموا في الموج مرارا وتكرارا لا يفلّ لهم عزم، واعين تماما أنّه سيعيدهم إلى نقطة البداية....

وعلى شاطئ البداية هذا تَرك الحرّاقة من النساء والرجال والأطفال حُرقة لا شفاء منها. إذ نكاد نسمع  آباءهم وأمهاتهم وأحبّتهم يصرخون:

"لي قارب في البحر روحي أبحرت معه"..

فيجيبهم الصدى:

"إن ضاع غوث المستغيث فما له من شيء يضيّعه."

ويصبح السؤال الذي تطرحه علينا هذه الدراما: غوث المستغيث، هل يستجاب أم لا يستجاب؟

تلك هي المسألة التي يرمينا بها هذا العمل الدرامي فيترجم مصير ضحايا منظومة الحرقة إلى مسؤولية مجتمعية وسياسية، وطنية وكونية.

فهل من مستجيب؟ أم هل سيُترك الحرّاقة والمحروقون إلى "موج (يترجمهم) إلى كلّ اللغات وينكسر" ... مع انكساراتهم؟