آراء حرة

ما دخل اتّحاد الشغل بالسياسة؟

بقلم ..عز الدين البوغانمي 

يبدو أنّ أهمية النص مرتبطة بأهمية القضية التي يمثلها الكاتب. بالمغامرة التي يخوضها. باستعداده لمواجهة المخاطر من أجل كلمة حقّ. لا يُمكن لِمأجور أن يكون كاتبا مبدعا، هذه الفوضى وهذا الخلط بين الناس يجب أن يتوقّف.

السؤال المهم هو، لماذا يصبح الكُتاب المأجورون جذابين ؟

بالأضواء، والشهرة، ودعم السلاطين، يجعلون من كاتب محدود الموهبة، عبقريا في نظر الناس.

في بعض الشركات في الغرب، معظم المدراء، والمناصب العليا تُسندُ لليافعين، شباب بلا خبرة، ولا معرفة. ولكن الراتب، والسلطة، والثياب الأنيقة تمنح هؤلاء الفتيان ثقة كبيرة بالنفس. ومع الوقت يتحسن خطابهم، وأداؤهم، فيظهر عليهم الوقار، والهيبة، وتهوي إليهم أفئدة الناس، وتوسلاتهم، ونفاقهم، وأسرارهم الخفية. نفس الشيء في الثقافة .

مشكلة المثقف عندنا أنه يفكر كسياسي ينتظر الانتخابات. وهذا خطأ كبير. أنت كاتب لا علاقة لك بالواقع والممكن وغير الممكن. يمكنك أن تخرج بحلول كالانتحار الجماعي للبشرية، كما فعل شوبنهور. لا تُغيّر من شراسة كلماتك بسبب الواقع، والناس، والعامة. أكتب كما يحلو لقلبك. أكتب كما لو أن المدن كلها تحترق، وأنت آخر قصيدة على ساحل الخراب البشري وسقوط الحضارات. أكتب بهذه الرّوح الصّافية الشُّجاعة، أو لا تكتب.

عندي بعض الأصدقاء من شدّة فقدانهم للضوء والنوّار في قلوبهم، صاروا يكرهونني، بقدر إعجابهم بما أكتب. فيقرؤونني بشغف دون ترك أيّ أثر. ومن حين إلى آخر يّطلقون ورائي شائعة تافهة، منها -مثلا- أنّ اتحاد الشغل يصرف عليّ أموالا.

والحقيقة أنا لستُ غاضبا من هؤلاء. بل أتفهّم ضعفهم تُجاهي. فحتى كُرههم لي ليس سويًّا. هو كره مرضي. يعني حبّ مقلوب. ولذلك سأواصل الكتابة بهذا الأسلوب من أجلهم، لأنهم بحاجة إلى انتحاريين من النّوع الثقافي. يستحمّون بالماء المالح، يلبسون الكفن، ويقولون الحقيقة في حشد غفير من الكذّابين والمنافقين. هذه هي حرب التطهير الحقيقية، وهذا هو الجهاد المعرفي. وبالرّغم من أنهم يعتبرون أنفسهم يسارًا ماركسيًا، أنا أّعاملهم باعتبارهم جماعة سُنّية من أتباع أهل الحديث بالنقل والإسناد، لاعتقادي المتين بأن غياب الأدب الملحمي في تراثنا، هو الذي جعلنا نفهم التاريخ الإسلامي فهما طائفيا. لأننا نفهم الصراعات بوصفها نورا وظلاما، وليس تحولات تاريخية تأخذ شكلها العنيف الطبيعي. معاوية بن أبي سفيان مثلا، ابن عم عليّ بن أبي طالب، ومن سادة قريش، مؤسس علم السياسة في التاريخ العربي الإسلامي، بشهادة "وول ديورانت" مؤلّف كتاب "قصة الحضارة"، واحد من عباقرة العالم . أما عليّ بن أبي طالب، فهو من أكبر الروحانيين في التاريخ البشري، أخلاقي فريد، وصاحب أعظم نظرة مأساوية لمصير البشر، ومتشائم من متشائمي التاريخ الكِبار. تقاتلا كما يتقاتل الأبطال في الملاحم

الهوميرية. كما يتصارع الخلود مع الخلود. هؤلاء رجال رأوا في مناماتهم آلهة الفردوس والجحيم، حتى حملوا مصيرهم إلى أقصى نقطة ضمير في تاريخ المعاملات وسُنن الأنبياء.

فلماذا بعد آلاف السنين يبول الشيعة على قبر معاوية ؟

ولماذا يجعلون قبر عليّ سوقا، وحصالة نقود، وعصبا سياسيا، ومستودعا للضعف والدّموع؟

بنفس المنهجية، يطرح البعض نفس الأسئلة، ونفس الأجوبة حول الاتّحاد العام التونسي للشغل: "ما دخل الاتحاد بالسياسة؟"

الاتحاد له عدة عناصر قوة:

قوته عدد منتسبيه المنتشرين في كافة أرجاء تونس، والذين يمثلون نسبة مهمة من السكان ونسبة من جملة من يحق لهم التصويت في الانتخابات.

وقوّته في تنوّع تركيبته الاجتماعية. فيه الأستاذ الجامعي والمهندس والطبيب والطيّار والصّحفي. وفيه السّائق وعامل الحضيرة والحارس.

وقوّته في تمثيل قطاعات استراتيجية في البلاد: التعليم، الصحة، النقل، الفلاحة، العدلية، الخارجية ... إلى درجة أن كل بيت في تونس لها علاقة مباشرة بالاتحاد او غير مباشرة.

فيه قوة التجربة والتنظبم والسنّ: هذا اتحاد عمره 75 عام كمنظمة، وقرن كحركة عمّالية. وقد تأسس قبل تأسيس الدولة نفسها. وهذه مسألة في غاية الأهمية لكونه شارك في معركة التحرير من موقع القيادة بدليل استشهاد أمينه العام على يد السلطات الاستعمارية. ولكونه شارك في بناء مؤسسات الدولة من موقع الصف الأوّل. أعضاؤه كانوا في المجلس التأسيسي. ووزراء. وأعضاء الديوان السياسي للحزب.

وشارك في بلورة السياسة الاقتصادية الاجتماعية من موقع الصف الأول أيضا، فنحن نعلم أن البرنامج الاقتصادي الذي نفذته حكومتا الحبيب بورقيبة الأولى والثانية صاغه الاتحاد.

دوره المركزي في تحديد التاريخ السياسي للبلاد، من خلال انتصاره للجناح البورقيبي في مؤتمر صفاقس 1955 الذي أطرد اليوسفيين من الحزب نهائبا. ومشاركته مع حزب الدستور واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين في تأسيس الجبهة القومية التي دخلت انتخابات المجلس التأسيسي وصارت هي الجبهة الحاكمة.

هنالك قوة تمثيل الحركة العمالية التونسية منذ ولادتها آواخر القرن 19. فهو الذي جمّع عمال تونس ونظمهم من أجل الدفاع عن حقوقهم، بعدما أفشل الاحتلال الفرنسي تجربتين سابقتين لإنشاء تنظيم نقابي تونسي وطني.

هنالك قوة الشرعية التاريخية الوطنية لأن النقابات نشأت كفعل رفض ومقاومة لسلطة الاحتلال، إلى حدود 1956.

هنالك قوة مساهمته في خلق مناخ سمح بولادة حياة سياسية في تونس، وولادة معركة الحريات ومعركة الديمقراطية.. ذلك أن علاقة الاتحاد بحزب الدستور كانت علاقة شراكة. ولم تكن علاقة تبعية. ولذلك قامت على الشد والجذب، منذ البدايات، حيث تمسكت المنظمة بقيادة الحبيب عاشور، باستقلالية نسبية، وبافتكاك مكاسب للشغالين. بينما كان بورقيبة يريد من الاتحاد ما هو أكثر من التبعية؛ كان يريد تدجينه وإذابته في قواعد الحزب ومسخ كيانه. وخلال عملية الشدّ والجذب بين الطرفين، انفجرت ثلاثة معارك كبرى، وانقطعت شعرة معاوية بين الاتحاد والحكومة ثلاثة مرات:

المعركة الأولى، عندما أقرّ الحزب الدستوري لائحة تفيد بأن المنظمات الوطنية، بما فيها اتحاد الشغل، صارت جزءًا من خلايا الحزب الحاكم. فرفضت القيادة النقابية ذلك القرار، وأعلن أمينه العام الحبيب عاشور أن الاتحاد مستقل، ولن يكون تحت هيمنة حكومة أي حزب سياسي. فقام بورقيبة بسجنه، ونصّب مكانه أمينًا عامًا مواليًا له.

منذ ذلك الحين بدأ النّظام يدخل في أزمته المزمنة. وبدأ عهد ولادة المعارضات الليبيرالية واليسارية والقومية. وتصاعدت الأزمة حتى تفاقمت في تجربة التعاضد.

المعركة الثانية: في إطار تطويق الأزمة الاقتصادية والسياسية الناجمة عن فشل تجربة التعاضد والتعاونيات. استمر عاشور متمسكا باستقلالية المنظمة دون الدّخول في صدام مع بورقيبة، حفاظا على نوع من التّوازن بين الدور النقابي والدور الوطني. ولأن التناقض بين الاستقلالية والتّدجين ظلّ قائما، يظهر أحيانا، ويخفت أحيانًا أخرى، فقد انفجر الصراع من جديد مطلع عام 1978، لما أعلن اتحاد الشغل الإضراب العام في 26 جانفي، المعروف بـالخميس الأسود، احتجاجًا على تدهور الأوضاع الاجتماعية بسبب سياسات النظام الاقتصادية، التي أُقصِيَ الاتحاد من المشاركة في صياغتها. انفجر الشارع، وعمت المظاهرات كل المدن، ودوّى الرصاص ليقتل ويصيب مئات المتظاهرين. وتم اعتقال الحبيب عاشور وأغلب قيادات الاتحاد، وإحالتهم على محكمة أمن الدولة.

المعركة الثالثة: بعد أحداث قفصة، وفي إطار محاولة النظام التخفيف من أزمته، وبضغوط من النقابيين، عاد الحبيب عاشور إلى الاتحاد عام 1981، ولكن علاقة المنظمة بالسلطة استمرت في الانهيار، إلى أن بلغت ذروتها بسبب دعم الاتحاد لانتفاضة الخبز جانفي 1984. فاعتُقل الأمين العام سنة 1985 وحوكم مع عدد كبير من القيادات النقابية في قضية عُرفت باسم قضية التعاضدية العمّالية للإنتاج "كوسوب"

عام 1987، كاد النظام يسقط بعد اختناقه بأزماته الدائمة والمتتالية، فأُطيح ببورقيبة، على يد الجنرال زين العابدين بن علي. وبدأت مرحلة جديدة، شهد فيها اتحاد الشغل، خلال 14 عاما، أسوأ سنوات حياته. حيث تحولت الأمانة العامة للاتحاد إلى باراشوك للسلطة داخل الطبقة الشغيلة.

دور الاتحاد في الثورة، وما بعدها:

أواخر 2010 اندلعت الثورة، فأعلنت المركزية النقابية النّأي بنفسها عمّا يجري. ولكن مقرات الاتحاد الجهوية والمحلية احتضنت الشعب، وتحولت إلى مراكز لإدارة المسيرات وتأطير المواجهات مع البوليس. مستقوية بانتشارها على كافة أرجاء التراب التونسي، وبقوة ترابطها وسرعة التواصل بينها. ومع تصاعد الاحتجاجات، وتصاعد عدد الشهداء، وتحت ضغط النقابيين، صعّدت القيادة المركزية للاتحاد لهجتها ضد النظام. ودعت بالتوالي إلى إضرابات جهوية عامة. وكان اضراب جهة صفاقس يوم 12 جانفي حاشدًا وغير مسبوق. تلاه الاضراب العام بتونس الكبرى يوم 14 جانفي 2011، تاريخ سقوط بن علي.

بناءً على كل هذه المسيرة العنيدة، المعمّدة بالدم والتضحيات، برز اتحاد الشغل منذ 15 جانفي 2011 كقوة سياسية واجتماعية تفوق كلّ الأحزاب السياسية مجتمعة، باعتباره أكبر قوة منظمة في تونس بعدد منتسبيها الضخم، وبانتشارها الجغرافي الواسع.

خلال المرحلة الانتقالية، بدأ الاتحاد يبحث عن مسالك للاستقرا في مشهد سياسي جديد مُتلاطم وغير معهود. فاختار احتضان كل الأطراف السياسية في المجلس الأعلى للثورة، بغاية دفعها للتفاهم حول المرحلة الانتقالية والحفاظ على أمن البلاد وضمان تواصل المرفق العمومي، ومنع انهيار مؤسسات الدولة. وجلس حكمًا بين كافة الأطرف، وضغط عليها جميعًا للذهاب في هذا الاتّجاه. وكرّس كلّ جهوده لمنع الانفلات والتحكّم في حركة الشارع في ظروف زلزال أطاح برأس النظام، ثم برلمان النظام، فمجلسه الدستوري، فحزبه الحاكم... ولعل هذا الدور، وهذا المكان الذي اختاره للوقوف، هو الذي أهّله لاحقا لتنظيم الحوار الوطني عام 2013 وإدارته بالتعاون مع منظمات وطنية أخرى.

من نتائج الزلزال الذي حدث. ونتائج صراع النخب على السلطة. وصراع الجماعات الاقتصادية المتضررة من الثورة ضد الجماعات المستفيدة منها. وبسبب التصدّع الهائل الذي أصاب الإدارة والتجارة والاستثمار والنسيج الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية، وفي قلب تلك العاصفة، كانت تدور رحى معركة اجتماعية واقتصادية، هي اختصاص اتحاد الشغل بامتياز.

مع الأسف الشديد، تداولت على الحكم نُخب فاسدة، مُنحطّة وطنيٍا، بلا برامج، ولا كفاءة، ولا قدرة على استيعاب اللحظة وفهم شعارات الثورة. ولا يقودها سوى العطش للسلطة، والاستيلاء على كل ما طالته الأيادي. ولأنها تفتقد لأجندة اقتصادية وطنية، تصرفت في مقدرات البلاد كما تتصرف العصابات في اقتسام الغنائم. فاعتمدت على أجندة المقرضين الدوليين، وامتثلت لإملاءاتهم الجائرة، بدءً بخوصصة القطاع العام، ورفع الدعم عن المحروقات، وتخفيض أعداد العمال في المؤسسات العمومية، وصولًا إلى رفع سنّ التقاعد. وبالتوازي مع ذلك، كان يجري إغراق الادارة بعشرات آلاف الانتدابات العشوائية الشّامتة. وبسبب تلك السّياسات الإجراميّة، توقف الاستثمار. وتضاعفت البطالة. وتوسعت رقعة الفقر. واشتعلت الأسعار. وعمّ الفساد شرايين الدولة والمجتمع.

لا يخفى على أحد أن كل هذه الأمور التي رفضها الاتحاد وتصدّى لها، كانت تجري على وقع طبول شيطنته واتهامه بكلّ التُّهم الباطلة. من "الاضرابات غير المبرّرة" وتعطيل الانتاج، والإجحاف في المطلبية، إلى الوقوف وراء الاعتصامات... وتناقل السُّوقى والمأجورون هذه الإشاعات وروّجوها على أوسع نطاق، حتى صرت تسمع أو تقرأ لأشخاص وُلِدوا بمناسبة صُدفة عابرة، يصفون الاتحاد العام التونسي للشغل ب"اتّحاد الخراب". أو يكتب أحدهم: "ما دخل الاتحاد بالسياسة؟" عجايب ؟!

والطريف أنّ الإسلاميين يتهمون الاتحاد بأنه منظمة يسارية متطرفة. واليسار يتهمه بأنه منظمة صفراء تقوده بيروقراطية يمينية عميلة للغنوشي وللأعراف. والدساترة بهتفون باسمه حين يضيق بهم الحال، وما أن تنفرج أمورهم يعتبرونه عدوّهم التاريخي. والأعراف يتهمونه بتعطيل الانتاج، وجزء من العمال الواقعين تحت تأثير الدعاية، يعتبرونه حليف الأعراف.

إلى جانب هذا كله، يُساءّ فهم الاتحاد ومواقفه بسبب جهل الناس بالإكراهات التي تفرض نفسها عليه، بصعوبة دوره، بتنوّع تركيبته الاجتماعية، باختلاف الخلفيات الفكرية التي تشُقّه، بالمصالح المتناقضة بين بعض القطاعات المهنية المتجاورة داخله، بالضغوطات الجهوية، بالتباس العلاقة مع السلطة المحكومة بثنائية التعاون والصِّدام في نفس الوقت. ونفس الشيء في علاقة بالمعارضة... فهذه المنظمة الوطنية الضخمة الواسعة، تحي، وفي داخلها كل تناقضات المجتمع، بما في ذلك تناقضات التنافس الداخلي على القيادة، وآثارها، وانطباعات الشغالين وعموم الشعب بمناسبة ظهورها للعلن.

خّلاصة القول: مصير قُوتْ الخدّامة وقُوتْ أطفالهم هو جوهر السياسة في تونس. وبهذا المعنى فالاتّحاد العام التونسي للشغل وُجِد ليشتغل في حقل السياسة. وهو ضمانة السّلم الأهلي. وهو الجهة الوحيدة التي تُحدّد متى يتوجّب عليها التّدخل في الشأن العمومي. ولا يليق ترديد جُمَلٍ ضعيفة المعنى، مسلوخة من سياقات بلدان أخرى، ومحاولة تركيبها على واقع تونس وتاربخها. فالاتحاد ليس مجرد تجمّع نقابات. بل هو معادل مدني لسلطة دولة ساهم هو في بنائها حجرةً، حجرةً.