اغتراب المثقّفين والمهندسين المعماريين: من حَمَلةِ المعنى إلى خدَمِ السّوق

* صورة تقريبية للتوثيق فقط.
اغتراب المثقّفين والمهندسين المعماريين: من حَمَلةِ المعنى إلى خدَمِ السّوق
بقلم: إلياس بلاغة
مهندس معماري، كاتب، وفاعل ثقافي
في زمنٍ صار فيه كلُّ شيءٍ يُقاسُ بالدّينار، لم ينجُ الفاعلون الثقافيّون، ولا سيّما المهندسون المعماريّون، من جاذبيّة السّقوط في حضن اللوبيّات والمضاربين. أولئك الذين يُفترض بهم أن يُعبّروا عن روح المجتمع، أن يوقظوا الذّائقة، أن يصوغوا الجَمال ويحموا المعنى، باتوا اليوم في الغالب شركاء في جريمة مزدوجة: إفساد المدينة وإخصاء العقول.
ما نعيشه ليس مجرّد انحدار أخلاقي، بل هو اغترابٌ عن الوظيفة الجوهريّة للثقافة. لم تعد العمارة لغةً تعبّر عن القيم، بل مجرّد سلعة تُركّب بسرعة وتُسَوَّقُ بجشع. لم يعد المعماريّ شاهداً على الزّمان والمكان، بل صار أداةً في يد المُضاربين، يُجيدُ فقط تَجميل القُبح وتبرير الفوضى.
وهكذا تحوّل الفنّان، الشاعر، المخرج، المعماري، والمثقف عمومًا، إلى منفّذٍ خاضعٍ لاختياراتٍ لم يكن شريكًا فيها. والسبب؟ المال السّهل، والإغراء بالمرئيّ، والتواطؤ المُريع مع السّلطة السّياسيّة التي لم تُعِرْ الثقافة يومًا وزنًا، لأنها تخشاها.
الطبقة السياسيّة الفاشلة وجدت في هذا الخراب فرصةً مثاليّة: شعبٌ بلا ذائقة، بلا ذاكرة، بلا قدرة على التمييز، أسهل في التّرويض، وأضعف في المقاومة. فأطلقت يد اللوبيّات الماليّة، وأغمضت عينيها عن الجرائم المعماريّة، وشجّعت الرداءة باسم التنمية.
لم تعد القرى قرًى، ولا المدن مدنًا، ولا الأحياء أحياءً. صرنا نعيش في تكدّساتٍ إسمنتيّةٍ لا تُشبهنا، ولا تُخاطبُ إنسانيّتنا. كلّ شيءٍ يُبنى لِيُباع، لا لِيُسكن، لا لِيُحبّ، لا لِيعيش.
فمن يُحاسب من؟ وأين صوتُ الهيئة؟ وأين المواقف الأخلاقيّة؟ كيف يقبل المعماريّ أن يُستَخدم لتجميل مشاريع فاسدة تُنتج البشاعة وتُسهّل الفساد؟ أين هم أولئك الذين أقسموا على خدمة الإنسان، فإذا بهم يخدمون رأس المال؟
لست أعمّم. لا شكّ أنّ هناك شرفاء يقاومون، يرفضون، ينسحبون بصمتٍ أو يصرخون في الخفاء. لكنّ الغالبيّة صارت صامتة، أو مستفيدة، أو مستسلمة.
إنّ ما يجري ليس تفصيلاً. إنّه تفكيكٌ منهجيٌّ لما تبقّى من وعيٍ جماعيّ، باستخدام الثقافة كأداة تدمير ناعم. لذلك، فإنّ الصّمت خيانة، والتبرير خنوع، والمهادنة جريمة في حقّ الأجيال القادمة.
آنَ الأوان لقول الحقيقة: لسنا ضحايا فقط، بل صرنا جُناة. علينا أن نعيد تعريف أدوارنا، أن نكسر صمتنا، أن نستعيد مهنتنا كرسالة، لا كوسيلة للربح السريع.
الثقافة ليست ترفًا، والعمارة ليست غلافًا خارجيًا، بل جوهرٌ يعبّر عن من نكون. وإذا فقدنا ذلك الجوهر، فماذا يبقى من الوطن؟
-------
* ملاحظة: الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع وهي تلزم صاحبها دون سواه.