صفاقس، فلسطين، ومحنة الرمز- بين شهداء التحرير ورايات الالتباس،من جورج عدّة إلى محمّد الزّواري

صفاقس، فلسطين، ومحنة الرمز- بين شهداء التحرير ورايات الالتباس، من جورج عدّة إلى محمّد الزّواري
بقلم طارق الشيباني
في صباح 21 جوان 2025، اهتزّ المشهد النقابي التونسي على وقع بيان صادرعن الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، يستنكر فيه ما تم وصفهُ بحضور عناصر دينية "صهيونية" في ندوة صحفية نظّمتها "تنسيقيّة العمل المشترك من أجل فلسطين" بالمقرّ المركزي للإتّحاد العام التّونسي للشغل.
بيانٌ شديد اللهجة، واضح الانتماء، لا غبار على نبضه، ولا مساومة في بوصلته: "فلسطين خطّ أحمر، والتطبيع خيانة صريحة".
لكن في عمق هذا الموقف النبيل، وبعيدًا عن الصّراعات التي تشقّ المنظّمة العمّاليّة، اختلطت مجدّدًا الإشارات، وتنازعت الرموز مساحات التأويل: هل كان الحاضرون فعلًا صهاينة؟ هل أنّ كل عمامة يهودية هي بالضرورة قبعة استعمارية؟ هل نُحاكم الشكل أم الموقف؟ وهل نترك العدو الحقيقي يختبئ خلف ضباب الخلط والتعميم؟
■ لماذا صفاقس؟ ولماذا الآن؟
• صفاقس... التاريخ الفاعل
ليس صدفة أن تتجه الأنظار مجددًا إلى صفاقس، هذه المدينة التي لم تكن يومًا مجرّد تركّز صناعي أو فضاء احتجاجي، بل كانت قلبًا نابضًا للحركة النقابية والوطنية منذ أربعينات القرن الماضي. فمنها انطلقت أولى شرارات العمل النقابي الحديث مع "اتحاد نقابات الجنوب" ليُمهّد الطريق لتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل بعد التوحيد مع "اتحاد نقابات الشمال" وجامعة المتوظفين.
هذه المدينة لم تكن فقط مسرحًا "للاضرابات" التي تزيّن أعمد الصحف الناطقة بالفرنسية ذات النزعة الإستعمارية، بل مختبرًا لأفكار العدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية.
بل إنّ المؤرّخين والمهتمين بالتاريخ السياسي المعاصر ذهبوا إلى أبعد من ذلك مُعتبرين صفاقس حاضنة استراتيجية ساهمت في بلورة وعي وطني عابر للقطر، عربيّ الهوى، أمميّ الأحلام، فلسطينيّ الروح منذ نشأته الأولى.
صفاقس اليوم ليست فقط ذاكرة، بل فاعل حيّ في الحراك الإجتماعي والسّياسي حيث لم تنقطع هذه الجهة عن أداء دورها التاريخي، رغم الأزمات البيئية والاجتماعية الخانقة.
في قلب هذه المدينة المتجذّرة بين الميناء والمعمل، بين الزيتونة و البحر، بين المعهد والكلّيّة، ينبثق سؤالنا: لماذا صفاقس؟
سيأتيك الردّ من أزقّتها، من ضواحيها، في وجوه عمّال "السّياب" وعاملات "معامل" الخياطة، في "سبّورات" معاهدها وفي صراخ باعة السمك و الخضار بأسواقها
" فلسطين كانت دائمًا فيها، في وجداننا، في شعاراتنا، وفي وجوه شهدائنا".
■ القضية الفلسطينية: قضيّة مركزية في وجدان النقابيين التونسيين
لصفاقس مع فلسطين حكاية بدأت بالشهداء ولم تنتهِ بعد.
من عمر قطاط، النقابي والمناضل الثقافي والسياسي، الذي لم يكتف بالنضال في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل، بل كان فنانًا ملتزمًا، إذ أخرج فيلمًا سينمائيًا بعنوان "عرق الجباه الصغيرة"، و نشط كأحد أبرز أعضاء نادي السينما "هاني جوهرية". لبّى نداء الواجب والتحق بصفوف المقاومة الفلسطينية، حيث استُشهد يوم 22 ديسمبر 1992 في "مرج الزهور" جنوب لبنان، وهو يقاتل في صفوف الثورة الفلسطينية ببندقيةٍ وأملٍ بوطن عربيّ بلا استعمار ولا اضطهاد.
ثم رياض بن جماعة، الذي استشهد يوم 19 جانفي 1995، في مواجهة مباشرة مع العدو الصهيوني بين قرية الطيبة جنوب لبنان ومستوطنة "مسكان عام" داخل فلسطين المحتلة، تاركًا خلفه سيرة شرف صافية.
تلاهما بليغ اللجمي ، الذي سقط شهيدًا يوم 27 جانفي 1996 في منطقة السريرة بقضاء جزين جنوب لبنان، مقاتلًا ضمن صفوف المقاومة، يكتب بالدم التونسي خريطة الكرامة العربية.
ثم جاء محمد الزواري، شهيد العقل المقاوم، الذي طوّر الطائرات المُسيّرة لصالح كتائب القسام، واستُهدف بعملية اغتيال صهيونية جبانة سنة 2016 في قلب مدينة صفاقس، ليؤكد أن النضال من أجل فلسطين لا يحتاج تأشيرة، بل رؤية واضحة وإيمانًا صادقًا بالتحرر.
ومن هنا ينقشع ضباب التّساؤلات: ماذا بينك يا صفاقس وبين فلسطين؟
صفاقس ليست مدينة تمرّ على فلسطين مرور الكرام، بل مدينة تودّع أبناءها الواحد تلو الآخر وهم يمضون صوب فلسطين كأنهم يعرفون الطريق دون بوصلة.
صفاقس التي لا يخلو شارع من أحيائها من علم أو شعار يحيّي المقاومة، ولا يخلو بيت من بيوتها من تلك الصورة الشهيرة لقبّة الصخرة معلّقة في الغرفة الرّئيسية بين صور العائلة.
■ الصهيونية واليهودية… الواقع يقصف الالتباس
في هذه اللحظة، التي يتصاعد فيها الالتباس حول الرموز والانتماءات، يبدو من الضروري العودة إلى الواقع لا الصورة، إلى المواقف لا الأزياء، لنفكّك الوهم الأخطر: "أن الصهيونية تمثل كل اليهود، وأن كل يهودي هو بالضرورة عدو لفلسطين."
* الرفيق جورج عدة، احد أباء الضمان الاجتماعي في تونس
1. جورج عدّة: شاهد تونسي على يهوديّة مقاومة للصهيونية
ولد سنة 1925 لعائلة يهودية تونسية، وانخرط مبكرًا في النضال العمالي في صفوف الحزب الشيوعي التونسي والاتحاد العام التونسي للشغل. دافع عن فلسطين ورفض المشروع الصهيوني من منطلق وطني وأخلاقي .
2. حركة ناطوري كارتا: "حاخامات" ضدّ "إسرائيل"...
ناطوري كارتا (Neturei Karta)، وتعني بالعبرية "حرّاس المدينة"، هي جماعة دينية يهودية أرثوذكسية تأسّست سنة 1938 في القدس، كردّ فعل على تصاعد النفوذ الصهيوني داخل المجتمع اليهودي، خصوصًا بعد إعلان وعد بلفور وبدء تنفيذ مشروع "الدولة اليهودية".
ترى هذه الجماعة أنّ قيام "دولة إسرائيل" ليس فقط خطأً سياسيًّا، بل "جريمة دينية" تمثّل عصيانًا صريحًا لوعد الله في التوراة. وفق تفسيرهم الحرفي، 《لا يحق لليهود إقامة دولة قومية قبل مجيء "المشيح" 》(المسيح المنتظر)، وأن استخدام القوة السياسية والعسكرية لاحتلال الأرض هو كفر وتمرّد على الإرادة الإلهية.
بناءً على ذلك، لا يعترفون بشرعية إسرائيل، ويُحرّمون المشاركة في مؤسساتها أو الاستفادة من خدماتها، ويُمنعون من حمل جوازات سفرها أو التصويت فيها أو التعامل بعملتها.
سياسيًّا، شاركوا في مؤتمرات عالمية مناهضة للصهيونية، أبرزها مؤتمر طهران 2006. وفي نيويورك ولندن، يقفون بزيّهم الدينيّ في مظاهرات رافعين علم فلسطين ولافتات تنادي:
"اليهود الحقيقيون يعارضون الصهيونية"
، "لا لدولة إسرائيل، نعم لفلسطين حرة".
وقد تعرّضوا للطرد والاعتداء والعزل حتى داخل الطوائف اليهودية الأرثوذكسية الأخرى، لكنهم لم يتراجعوا. بل يعتبرون مواقفهم "فريضة دينية"، ويدافعون عن حقوق الفلسطينيين باسم الإيمان، و الأنسانيّة.
* في الصورتين: أعضاء من جماعة "ناتوراي" مع الزعيمين الراحلين ياسر عرفات واسماعيل هنية
3. جبهة الضمير العالمي: حين يتكلّم غير العرب باسم فلسطين
* نعوم تشومسكي، المفكر الأمريكي ذو الأصول اليهودية، من أبرز منتقدي الكيان الصهيوني. وصف غزة بأنها "أكبر سجن مفتوح في العالم" .
* نورمان فنكلشتاين، فقد والديه في المحرقة، لكنه كرّس حياته لكشف جرائم الصهيونية، وفضح استغلال "الهولوكوست" .
* إيلان بابيه، المؤرخ اليهودي "الإسرائيلي" المنفي في لندن، صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" .
كلّ هؤلاء، ومعهم آلاف النشطاء، يرفعون شعارًا واحدًا: "لسنا فلسطينيين، لكننا في صف العدالة... والعدالة تبدأ من فلسطين."
* معلقة تجسد التضامن العالمي مع فلسطين وتقول "من النهر الى البحر، ستتحرر فلسطين"
■وضوح الموقف ودقّة البصيرة
نحن لا نشك في وضوح الموقف النقابي في صفاقس. بل نعتز به، وننحني أمام ذاكرته التي دوّنت أسماء عمر قطاط ورياض بن جماعة و بليغ اللّجمي ومحمد الزواري، وسائر أبناء الوطن ممن استشهدوا في سبيل فلسطين:
*عبد القادر الجندوبي (1979)، نذير الدويري (1980)، ميلود بن ناجح (1987)، عمران المقدمي (1988)، خالد الجلاصي (1988)، مقداد الخليفي (1990)، صلاح الماجري (1991)، فيصل الحشايشي (1993)، سامي الحاج علي (1995)، كمال البدري (1996)...*
لكن، علينا أن نُعيد تأهيل ذاكرتنا السياسية لتُحدّد المفاهيم لا لتعويمها، ولتُغربل لا لتقصي. أن نقف في وجه الاختراق، لكن دون أن نغلق الباب في وجه الحلفاء الحقيقيين، فمن واجبنا أن نحمي حدود فلسطين من رمزية الاختراق، ولكن أيضًا من رمزية السطحية، فالصهيونية أذكى من أن تمرّ بعمامة. إننا نُقاومها حين نكشف كذبها، لا حين نعمّمها.
صفاقس، تلك المدينة العمّالية التي علّمتنا أن النضال لا يُقاس بالمظاهر بل بالمواقف، قادرة اليوم على خوض هذا الجدل الرمزي بعمق النقابيين لا بسرعة العناوين. وفلسطين التي تعلّمنا أول أحرفها في نوادي الأطفال التي كان يؤمّنها الاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، لا ترفض يدًا ممدودة من يهودي مناهض للصهيونية، بل تضعه في الصف الأول، إلى جانب من حلموا بتحرير القدس من كل استعمار.
■ فلسطين فوق الصّراعات الدّاخليّة
أمام ما تشهده البلاد من تجاذبات سياسية ونقابية، تبرز الحاجة القصوى لاستعادة القيم الأصلية التي وُلد منها هذا التضامن التاريخي. ففلسطين ليست راية تُرفع فقط في المعارك الداخلية، ولا قميصًا يُلوّح به في خلافات ظرفية...
ومن صفاقس التي حملت الشهداء والبيانات واليافطات، نُعيد التأكيد: *لا بدّ من النأي بهذه القضية النبيلة عن كلّ أشكال التوظيف والمزايدات، سواء كانت سياسية أو نقابية.*
*ففلسطين ليست ساحة لتصفية الحسابات، بل مرآة تُعرّي المواقف والمبادئ، وتمنح الشعوب فرصة نادرة للتماهي مع ما تبقّى من الحقّ في هذا العالم.*
فلنُبقِ النضال النقابي حرّا، نقيّا، كما أراده فرحات حشّاد، وكما خطّه شهداء صفاقس في تونس وفلسطين.
*ولنرفع الشعار: "من صفاقس إلى غزة، فلسطين تجمعنا لا تفرّقنا."*
---
المراجع:
1. اليسار التونسي والقضية الفلسطينية 1947~1988 ،رضا مقني،دار حشاد للنشر
2.من تونس هنا فلسطين: ورود تونسية في الطريق إلى القدس,محمد رامي عبد المولى- Nawat.org
3. شهادات أرشيفية مع جورج عدّة، من منشورات الحزب الشيوعي التونسي.
5. Habib Achour : Ma vie politique et syndicale. Enthousiasme et déceptions 1944-1981 (les éditions Alif)
6- Histoire du mouvement syndical ouvrier de la Tunisie : 1924-1956, Abdesslem ben Hmida-éd. Mohamed Ali, Tunis/Sfax, 1984
7. [www.nkusa.org؛](http://www.nkusa.org؛)
8. Noam Chomsky, *Gaza in Crisis*, Haymarket Books, 2010.
9. Norman Finkelstein, *The Holocaust Industry*, Verso, 2000.
10. Ilan Pappé, *The Ethnic Cleansing of Palestine*, Oneworld Publications, 2006.