آراء حرة

أكله الدّاجن: عن الدستور والجمهور! قراءة سريعة للاستاذ مختار الخلفاوي

تعميما للفائدة واثراء للنقاش، ننشر فيما يلي قراءة سريعة لمشروع الدستور الجديد قدمها الزميل الاستاذ مختار خلفاوي. وقد استهل الكاتب قراءته بقوله:  حتّى لا نكتفي بالعناوين والملخّصات والعنعنات، أذكّر في نقاط سريعة بموقفي الذي عبّرت عنه بخصوص مشروع الدستور.

* التوطئة:

1- توطئة الدستور وأبوابه وفصوله تقرأ في كلّيتها قراءة خطّية ثمّ ارتجاعيّة للوقوف على الاتّساق والتكامل أو التضارب والتلفيق.

2- التوطئة هي النصّ الافتتاحيّ الذي يتصدّر المتن، ووظيفتها بالأساس وظيفة تأصيلية اتّصالية وتفسيريّة. فهي تستقطب "روح" الدستور المعروض، وتجيب عن أسئلة ثلاثة رئيسيّة: لماذا هذا الدستور؟ لمنْ هذا الدستور؟ كيف تترجم فصوله الواردة في الأبواب روحه وفلسفته المعبّر عنها في التوطئة؟

3- لأنّ الأسلوب هو المرء، فمن المؤكّد أنّ التوطئة كتبها الرئيس قيس سعيد بنفسه. فيها أسلوبه، ولغته، ومرجعياته، ومجازاته، واستعمالاته.

4- غلب على التوطئة الطول والحشو والثرثرة، واصطبغت بنزعة ذاتيّة نرجسيّة واضحة.

5- الذاكرة التي تحرّكها التوطئة هي ذاكرة انتقائيّة، تبرز أحداثا وتسقط أخرى، تضخّم أحداثا وتهوّن من أخرى، أو هي ذاكرة استيهاميّة تطلق العنان للخيال حتّى تمّ اختزال حركيّة التاريخ والأفكار الكبرى في تونس في خطّ يجمع بين إصلاح القرن التاسع عشر وصولا إلى "الانفجار الثوري العظيم"..

ومن وجوه المبالغة والتضخيم الحديث عن جحافل الشهداء الذين قدّمتهم تونس، والجحفل هو الجيش الجرّار الكثير العدد، والحشد الغفير.. فهل ينبئنا التاريخ عن ذلك حقّا؟

6- غاب في هذا الاستحضار تاريخ تونس الممتدّ إلى آلاف السنين والذي أعطى لبلادنا موقعها في قلب حضارات المتوسط منذ 10 آلاف سنة.. تم اختزال مرحلة دولة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية كأنها وضعت بين قوسيْن..

7- لغة التوطئة فضفاضة سقيمة في جملتها يغلب عليها التكرار والتقعّر والأخطاء اللغويّة.

* الجدل الدائر على الفصل الخامس:

1- لقد تمّ تفكيك الفصل الأوّل الشهير في دستور 1959 و2014 إلى سبعة فصول دونما وجاهة قانونيّة أو إجرائيّة.

2- تمّ حذف التنصيص على دين الدولة، ولكن استعيض عنه بالفصل الخامس الذي يقول: "تونس جزء من الأمّة الإسلاميّة، وعلى الدولة وحدها أن تعمل على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النفس والعرض والمال والدين والحرّية."

3- الجدل الذي ثار على منطوق هذا الفصل كان متعلّقا بالمرجعية الدينية فيه. البعض رأى فيه التزاما من الدولة بتطبيق الشريعة (!!). وكالعادة، ثمّة من المزروبين والطارئين على دومان "نقد الإسلام السياسي" بعقلية الحضبة والفيراج من وقف عند العقبة. البعض قال إن الإسلام المقاصدي هو عين الإرهاب وعقيدة داعش، وهلمّ خضرطة..

4- من أجل كفّ هذا الشغب الغوغائيّ، أسهمت مع غيري في بيان أنّ ما يعرف بالفكر المقاصدي والقراءات المقاصدية باب واسع من العلم له أهله المختصون به (ولست منهم فليطمئنّ المتربّصون)، وذكرت أعلاما عنه من القديم والحديث للاستشهاد لا للدفاع والمنافحة عنهم وتبنّي أفكارهم. وأوضحت أن المقاصد، في مذاهبهم، هي المصالح التي يراعى تحصيلها عبر توخّي الاجتهاد، وأحيانا تصل هذه القراءة إلى الاشتباك مع القراءة الفقهية النصّية. وهذا رأي أصحاب هذا الاتّجاه وليس رأيي الشخصيّ بالتأكيد. فأنا من الموقع الفكري البحت، لا أؤمن قطعا بهذه الاجتهادات التي تصل إلى حدّ المخاتلات والتلفيقات التي قد تلوي عنق الحقيقة حتى يقال، مراعاة لمشاعر الجمهور، إنّ الإسلام صالح لكل زمان ومكان. ولكن في السياسة، وفي مجتمع غارق في الشعور بالذنب "لأنّه ابتعد عن الدين القويم" أتفهّم ضيق المشرّع ورغبته في احتواء هذا "الشعب المسلم الذي لن يستسلم" !

الطاهر الحدّاد وهو ممّن يحسب على هذا الاتّجاه في قراءة النص الديني دعا إلى التمييز بين ما جاء به الإسلام وما جاء من أجله.

5- ما أفهمه من الفصل الخامس هو محاولة لسدّ الثغرة الناشئة عن حذف "الإسلام دينها"، ولقطع الطريق على من يتسقّط هذا الحذف. ولكنّ هذه المحاولة صِيغت بطريقة ملتبسة ومتعجّلة من عنديّات الرئيس التي يحتفظ بها، ومرجعيّاته المحافظة التي يستند إليها. وكان حريّا بدستور حديث لدولة حديثة أن يتوخّى لغة تنأى عن فقه القرون الوسطى، توقّيا من أبواب التأويل المفتوحة..

6- نشأ التباس في نصّ الفصل مع الحصر والقصر. تمّ حصر مهمّة "العمل على تحقيق مقاصد الإسلام" على الدولة وحدها. من الممكن أن أتفهّم الخلفيّة التي قادت إلى هذا الحصر والقصر، وهي محاولة لسحب البساط من تحت "جماعات العمل الإسلامي" من الإسلام السياسي وغيره. وما أفهمه، أيضا، أنّ هذا الحصر أُرِيد منه المنع الآلي من قيام أحزاب على أساس مرجعية دينية، أو على أساس برامج دينية، لأنّ الدين ترعاه الدولة وحدها.

7- حين ثار الجدل على مسألة الفصل الأول واحتمال تغييره، لم يخف بعض قيادات "الإسلام السياسيّ" ابتهاجهم. قال أحدهم: هذا ما ننتظره. أن تخرج الدولة من رعاية الشأن الديني، وتعود مهمة رعايته إلى المجتمع. وهكذا لا يمكن للدولة أن تتدخل في تعيين إمام هنا أو هناك، أو أن تملي ضوابط الخطب، أو تتحكم في ما يدور في الفضاءات المسجدية آناء الليل وأطراف النهار!

ما يبحث عنه تجّار الدين هو هذا. أن تتخلّى الدولة عن احتكار رعاية الشأن الديني تدبيرا ومراقبة وضبطا وتعديلا لفائدة جماعات وجمعيات ومنظمات ومؤسّسات جاهزة للانقضاض للاستثمار في الدين وتوظيفه. وتعلمون مآلات هذا التوظيف.

8- ما أعلمه أنّ التنصيص على دين الدولة في الفصل الأول في دستور 1959 لم يجعل من تونس دولة دينية تحكم بالشريعة الإسلاميّة لا في عهد بورقيبة ولا في عهد بن علي. وما أعلمه أنّ النصّ على حرّية الضمير في الفصل السادس من دستور 2014 لم يمنع محاكمة أشخاص من أجل حرّيتهم في الضمير والتعبير بتهم الإساءة إلى المقدّسات تحت عنوان الإخلال بالأمن العامّ. ولا أعتقد أن الفصل الخامس من هذا الدستور يعني أن قيس سعيد يدبّر أمرا بليل لكي يعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد..

9- لأنّ الفصول تقرأ في كليتها وشموليّتها، ينبغي أن لا نغفل الفصل الثامن والعشرين (تحمي الدولة حرّية القيام بالشعائر الدينية ما لم تخلّ بالأمن العامّ)، والفصل السابع والثلاثين (حرّية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحرّيات)، والفصل الخامس والأربعين (الحرّيات الأكاديمية وحرّية البحث العلمي مضمونة).

صحيح، لقد تمّ إسقاط فصل مدنيّة الدولة دون وجه موجب، ولكنْ لا أعتقد أنّ "دولة الشريعة" تحمي مثل هذه الحقوق والحرّيات.

* أين المشكل، إذن؟

1- من يختزل نقد مشروع الدستور في إشكاليّة تضمّنها الفصل الخامس منه، ويقف عندها لا يتخطّاها مستعذبا العويل والنحيب هو كمن تريه موضع القمر، فيكتفي بتأمل هيأة السبّابة في كفّ اليد.

2- المشكل الحقّ في تقديري أعمق، ويتعلّق بمسألة جوهريّة. لماذا تصنع الدساتير في النهاية؟ وجدت الدساتير لترجمة تراض جماعيّ وعقد اجتماعيّ لتدبير العيش المشترك تحت سقف القانون مع وجود ضمان بتداول سلمي على السلطة. فهل يضمن مشروع الدستور المقدّم هذا الرهان؟

3- لا يوجد فصل بين السلطات التي صارت تسمّى وظائف. "الوظيفة" التشريعيّة تمّ تحجيمها من خلال خلق هيكل مواز لمجلس النواب اسمه المجلس الوطني للجهات والأقاليم. وفضلا عن الضبابية في اختصاص كلّ مجلس منهما، فليس لهما الدور الرقابي الفعّال على أداء الحكومة. ويحتاج لوم الحكومة إلى مصادقة النصف في المجلسيْن معا.

"الوظيفة" التنفيذية استأثرت بصلاحياتها رئاسة الجمهوريّة. صلاحيّات واسعة للرئيس، والأخطر من هذا كلّه أنّ الرئيس لا يخضع للمساءلة.

"الوظيفة القضائيّة" تفتقد، عمليّا، إلى الاستقلاليّة. مجالس الأقضية الثلاثة تتكفّل بتنظيم القضاء تحت إشراف رئيس الدولة، ولا وجود لمجلس أعلى للقضاء.

أمّا المحكمة الدستوريّة فصارت بتسعة أعضاء من القضاة فقط. ليس هناك تمثيلية في المرفق القضائي للمحامين ولا للأساتذة الباحثين. سيقتصر الأمر في تسميتهم من رئيس الجمهوريّة على عامل واحد هو الأقدمية في الخطّة بالنسبة إلى القضاء العدلي والإداري والمالي. موضوع الكفاءة والأهلية غير مطروح. ورغم هذه الاعتباطيّة، فإنّ رئيس المجكمة الدستوريّة هو من يتولّى رئاسة الجمهورية مؤقّتا في حالة شغور منصب الرئيس!

4- سقطت من مشروع الدستور جميع الهيئات الدستورية المستقلة باستثناء هيئة الانتخابات. وبهذا الحذف، يغيب الدور الرقابي والتعديلي المفترض في عمل تلك الهيئات كما غاب الدور الرقابي المتبادل بين السلطات / الوظائف الثلاث، فما بالك بالسلطة الرابعة !

(مختار الخلفاوي)